تكافؤ الفرص
أصبح تكافؤ الفرص من أهم الشعارات التي ترفعها المؤسسات الانتاجية في مختلف البلدان أينما كان موقعها، وأصبح معياراً للنزاهة والشفافية والوطنية والصدقية، كما أنه غدا عنصراً وشرطاً أساسياً في نجاح المؤسسات وتقدم المجتمعات وازدهارها.
ولأهمية تكافؤ الفرص، تطالب المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان من الحكومات بضرورة تطبيق هذا المبدأ وسن التشريعات الضرورية له. ولذلك أنشئت في كثير من البلدان لجان وإدارات في المؤسسات الحكومية والخاصة لضمان تحقيق تكافؤ الفرص بين الموظفين.
دعونا نتساءل: لماذا هذا الاهتمام الدولي بتكافؤ الفرص؟ ولماذا تتباهى الدول الكبرى قبل غيرها بتجربتها وأنظمتها التشريعية ومنجزاتها في هذا المجال؟ ولماذا المؤسسات التي تفشل في العمل بهذا المبدأ تكون منبوذةً من قبل أفراد المجتمع؟ ولماذا الدول التي تحرص على تحقيق تكافؤ الفرص بين أفراد مجتمعها تسمى بالدول المتحضرة والراقية والراعية لحقوق الانسان؟ وهل اعتمدت البلدان الصناعية على هذا المبدأ كعنصر أساسي في نهضتها الاقتصادية؟ وهل أن فقر الدول النامية ومشاكلها الاقتصادية والسياسية التي لا تعد ولا تحصى يرجع إلى غياب العدالة وتكافؤ الفرص؟
تعرف المساواة بأنها حالة اجتماعية يكون فيها جميع أفراد المجتمع سواسيةً أمام القانون، بغض النظر عن دينهم ومعتقداتهم أو جنسهم أو أعمارهم أو لغتهم أو أصلهم العرقي أو توجههم الفكري والسياسي، وتأتي المساواة كجزء من المفهوم الشامل للعدالة الاجتماعية والتي يقصد بها إعطاء كل ذي حق حقه، وفقاً لمبدأ «تكافؤ الفرص» بين أفراد المجتمع، بقطع النظر عن أية اعتبارات أخرى تتعلق بأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إذاً فإن تكافؤ الفرص يعني التساوي بين جميع أفراد المجتمع الواحد في المجالات المختلفة مثل التعليم والعمل والخدمات الحكومية بمختلف أنواعها والفرص الاستثمارية والمجالات الأخرى.
لقد لعب «تكافؤ الفرص»، كمبدأ أساسي في العدالة الاجتماعية، دوراً جوهرياً في تقدم وازدهار المجتمعات الصناعية، ولولاه لما حصل كل هذا التقدم في العلم والتكنولوجيا والابتكارات والإبداعات التي تفتخر بها هذه البلدان المتقدمة «المتحضرة»، مع هذا المبدأ تجاوزت أميركا الفضاء لتصل إلى القمر والمريخ، وحقّقت اليابان وسنغافورة المعجزات الاقتصادية، واستطاعت أوروبا أن تتغلب على الجهل والعنصرية والنازية والاستبداد الذي أدخلها في حروب وفتن وصراعات أفقدها ملايين من الأرواح وموارد لا تعوض.
قبل ذلك وقبل نهضتها الاقتصادية ولقرون من الزمن، كانت المجتمعات المتقدمة، كبقية الدول الفقيرة، تعيش في جهل وظلم وظلام، العنف والحروب واستعمار البلدان الفقيرة ونهب مواردها كان الأسلوب والأداة الرئيسيّة للعيش والتنمية، لم تكن هذه المجتمعات تدرك أهمية العدالة الاجتماعية كنهج اجتماعي واقتصادي في تقدمها، ولم تكن تدرك أن تكافؤ الفرص سيبني اقتصادياتها وسيبرز مواهبها المخزونة وقدراتها الفكرية ويحقق لها العظمة والاستقرار. ولكن عندما استقرت ووضعت ركائز الديمقراطية كنظام يدعم العدالة بين الناس، وحاربت كل أنواع الظلم والاضطهاد، ووضعت حداً للفساد الإداري والمالي، وسنّت التشريعات اللازمة لمحاربة المفسدين الذين يهتمون بمصالحهم فقط، وعملت بمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب، وتبنت تكافؤ الفرص كنهج أساسي في استراتيجياتها، استطاعت أن تنمو وتزدهر وتصل إلى ما هي عليه الآن.
لقد قامت هذه البلدان بدراسة الدور الذي يمكن أن تلعبه العدالة ومبدأ تكافؤ الفرص في التنمية الاقتصادية، فتوصلت إلى نتائج في غاية الأهمية، وهي أن غياب العدالة كان سبباً في هجرة العقول وزيادة الفقر وتخلف المجتمع ما ساهم في خلق الفتن والحروب. وبناء على ذلك أدركت هذه المجتمعات بأن تكافؤ الفرص بين الناس يحصن المجتمع من الانقسام، ويمنع النزاعات والخلافات ويقوي العلاقات الاجتماعية، ويساعد على الانتاجية والإبداع والابتكار وإبراز المواهب التي يحتاجها الاقتصاد لتعزيز قدراته التنافسية ودفعه للأمام. كما أنها أيقنت (وهذا الأهم) بأن العمل في ظل غياب تكافؤ الفرص هو مضيعة للوقت وإهدار المال العام وموارد الدولة، لأن المجتمع سيعيش في حالة الفساد والظلم المطلق، وسيهيمن المفسدون على مقدرات البلد، وينهبون خيراته من دون أي مراعاةٍ للنظام القائم، ولا للمجتمع ولا للمصلحة العامة، فما يشغل فكرهم هو ليس الوطن وتطوره؛ بل مصالحهم الذاتية فقط والتي يعتقدون أنها تعلو ولا يُعلى عليها.