تشيلي... ودروس لنهاية ديكتاتور
تحظى دول أميركا اللاتينية بالكثير من العبر والدروس في كيفية التحول الديمقراطي بعد حقب طويلة تحت قبضة الحكم الديكتاتوري. وقد تكون تشيلي نموذجا مهماً في تاريخ السياسة الحديث، فإذا كانت التجربة التشيلية قد توجت بالانتخابات الحرة والحكم الديمقراطي، فإنها تتشابه في مرحلة «ما قبل الديمقراطية» مع الأنظمة العسكرية التي هيمنت على السلطة بعد الانتفاضات والثورات الشعبية الكبرى.
وعودة لقراءة التاريخ، فقد واجه الرئيس الراحل لتشيلي الجنرال اوغستو بينوشيه ضغوطاً متصاعدةً داخلياً وخارجياً لإبداء بعض المرونة لتحول نحو الحكم الديمقراطي. إذ لعبت الضغوط الخارجية دوراً مهماً لإجباره على تقديم تنازلات تستعيد المسار الديمقراطي وخاصة بعد أن عاشت بلاده حقبة طويلة تحت وطأة الظلم والتعذيب والتنكيل بحقوق المواطن التشيلي. وعلى رغم أن واشنطن كانت هي الحليف الرئيسي لبينوشيه، إلا أنها بدأت تضيق ذرعاً من ممارسته القمعية التي استخدمها ضد المعارضة، وخاصة بعد موجة السخط العالمي لانتهاكات حقوق الإنسان في تشيلي.
وهو ما دفع بالحليف الرئيسي من بينوشيه لتهيئة مناخ ملائم لإجراء استفتاء شعبي على حكمه القمعي، مهددة بقطع مساعداتها عن الحكومة العسكرية التي لم تعرف قط سوى لغة الترهيب والزج في السجون. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل لعبت ضغوط الفاتيكان في العام 1987 دوراً مهماً على نظام بينوشيه لإطلاق الحريات العامة إذ طالبت بضرورة وقف حد لانتهاكات حقوق الإنسان، أضف إلى ذلك تقارير منظمة العفو الدولية التي لعبت دوراً مهماً في هذه الضغوط. إذ أصدرت المنظمة مع منظمات أخرى تقارير موثقة انتقدت فيها بشدة أوضاع حقوق الإنسان في تشيلي، وأشارت إلى مقتل نحو 30 ألف شخص، ونفي قرابة نصف مليون شخص إلى خارج البلاد واختفاء الكثيرين من المعارضين، وقد أثارت هذه التقارير موجة سخط خارجية عارمة.
كان هذا يحدث في وقت تفاقمت فيه المشكلة الاقتصادية لتشيلي، وانخفضت قيمة العملة الوطنية، وزاد حجم الديون الخارجية حتى وصلت إلى نحو 18 مليار دولار، مع زيادة معدلات البطالة من 182 ألفاً بالعام 1973 إلى 280 ألفاً في العام 1985 من إجمالي عدد السكان البالغ وقتها نحو 11 مليون نسمة.
الحل في مواجهة أزمة تشيلي مع ديكتاتورها تمثل في خلق تحالف ديمقراطي قوي بين اليسار واليمين، مكون من أحزاب المعارضة المتعددة، والتي نجحت في تنظيم حركات احتجاجية فرضت نفسها وأجبرت بينوشيه على تقديم تنازلات بدت متواضعة وقتها إلا أنها قادت في النهاية إلى إسقاطه.
فتمثلت التنازلات في السماح بعودة معظم السياسيين المعارضين من المنفى، والإفراج عن السجناء، ووضع إجراءات للحد من انتهاكات حقوق الإنسان، والسماح للأحزاب بممارسة نشاطها، والسماح بإصدار الصحف والمجالات، وإقامة محطة إذاعية معارضة. وكانت الخطة الأهم من كل ذلك هي مطالبة المعارضة بإجراء استفتاء على تجديد مدة حكم بينوشيه، التي تنتهي في مارس/ آذار 1990، وهي معركة فاصلة انتصرت فيها المعارضة، اذ أجري الاستفتاء في 5 أكتوبر/ تشرين الأول العام 1989. وأظهرت نتيجته رفض 53.3 في المئة استمرار الحكم العسكري، وحظي بينوشيه بتأييد 44.3 في المئة.
بعد نتيجة الاستفتاء أقر بها بينوشيه، لكنه أصر لاحقاً على البقاء حتى تنتهي ولايته الرئاسية في مارس 1990، إلا أن المعارضة تصاعدت ضده، وطالبت بإجراء انتخابات رئاسية عاجلة، تمت بالفعل في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1989، فاز فيها مرشح المعارضة زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي باتريشيو أيلوين، بنسبة 53.8 في المئة من أصوات الناخبين.
من المؤكد أن تجربة تشيلي تعد مجموعة عبر ودروس قاسية من التاريخ السياسي الحديث، إذ جاءت بعد البرازيل والأرجنتين، ونضال شعب سعى طويلاً لإنهاء حقبة طويت عقب توقيف بينوشيه في بريطانيا العام 1998 بناءً على مذكرة اتهام إسبانية لكن المنية وافته قبل أن يحاكم أمام سلسلة طويلة من الانتهاكات.