كان ذكياً مبدعاً محباً لوطنه
جمعتني الصدفة بأحد زملاء الدراسة القدامى الذي كان للتو قد التحق بالمتقاعدين. التقيت به وهو يتجوّل في أحد المحلات التجارية الفاخرة، عمره لا يتجاوز 52 سنة؛ ولكن ملامحه وتجاعيد وجهه ولحيته البيضاء يبدو وكأنه في العقد السابع من العمر.
قبل أن أتبادل الحديث معه، كنت قد استرجعت شريط الذكريات القديمة، ذكريات الدراسة ومرحلة بناء القدرات والتعلم، مرحلة الأحلام والتمني. كان هذا الصديق من الطلبة المميزين ومعروفاً بذكائه وتفوقه في جميع المواد وجميع المراحل الدراسية، جاداً ونشيطاً فعالاً في الأنشطة الاجتماعية، يهوى الاطلاع والقراءة والتزود بالعلم والمعرفة. كانت صفات وملامح القيادة فيه واضحة تماماً وهو لا يزال شاباً يافعاً، غيوراً ومحباً لوطنه. مثل أي شخص آخر كان دائماً يحلم بأن يحصل على بعثة دراسية يتمكّن من خلالها الالتحاق بالجامعة، ومن ثم الدراسات العليا ليكون شخصاً مثمراً منتجاً مبدعاً يساهم في بناء وطن قوي متطور يقبل الجميع من دون أي تمييز أو واسطة؛ وطن تسيره الإنتاجية والعدالة، ويفتح أبواب سوق عمله بوظائفه ومناصبه المختلفة لكل أبنائه، بعيداً عن اللقب والاسم والدين واللون والمذهب.
بعد تبادل الأخبار المفرحة والمحزنة، عرفت أنه وبمساعدة والده قد التحق بإحدى الجامعات البريطانية ونال شهادة عليا، وعمل كمدرس جامعي في إحدى الجامعات البريطانية لثلاث سنوات. وفي البحرين لم يتأخر كثيراً في الحصول على الوظيفة التي كان يحلم من خلالها أن يواصل التألق والإبداع، وتستغل قدراته الذهنية وشهاداته الجامعية أفضل استغلال.
كان يتحدّث عن وظيفته وحياته العملية، وكيف بدأها وهو في عنفوان شبابه بأحلامه وشهاداته المتنوعة، وكيف تركها وهو متهالك الجسد والأمل في التطوير والتغيير. يقول: لقد تقاعدت مبكراً من عملي، بعد أن تيقنت من أن بيئة العمل لم تعد صالحةً للعمل، ولا تقدر الكفاءات بل تطردهم بعيداً. كيف يمكنك العمل في بيئة لا تحترم من يحترمها، ولا تكافئ من يسعى بكل إخلاص في زيادة إنتاجيتها وتطويرها. كيف يمكنك الاستمرار في بيئة ملونة بألوان الفساد، فعلى رغم وجود نظام إداري شامل إلا أن الواقع شيء آخر تماماً، فالمسئول هو من يقرّر من المنتج ومن المقصر حسب معاييره الخاصة. فالأمر كله يتوقف على طبيعة وشخصية المدير والمسئول المباشر. فإن كان كفؤاً، منتجاً، يحب التطوير وعادلاً ومتعاوناً مع من حوله وراضياً عنك فستكون في أحسن حال، حيث ستعمل بكل تفانٍ وإخلاص وسيكون لك داعماً وحافزاً على الإبداع .
أما إذا كان مسئولك المباشر غير ذلك، ومن الذين تم تعيينهم بناء على اسمه الرباعي، وليس بناءً على إنتاجيته وكفاءته ومؤهلاته، فإن أصحاب المؤهلات والمخلصين في العمل سيكونون في عون الله ورحمته، فليس لديهم مكان في تلك المؤسسة غير الرحيل أو الانتظار إلى أن ينقل مديرهم إلى منصب آخر. وتجربتي تقول إن الانتظار مضيعة للوقت لأن الأمر قد يطول لسنين طويلة ستفقد خلالها قوتك العلمية والإدارية، وستركن في إحدى زوايا الإدارة شبيهة بالإقامة الجبرية إلى أن ترفع الراية البيضاء وتقرّر الرحيل، وهذا ما حصل بالفعل.
فبعد كل هذا التفاني والإخلاص في العمل، خرجت صفر اليدين والرجلين، مثقلاً بهموم وأمراض، وقد أقضي ما تبقى من عمري في التفكير في أسبابها ومعالجتها. كل ذلك كان بسبب اختلافي مع المدير في الرأي والرؤى، وحبي المفرط في العمل، ومطالبتي الدائمة في أن تكون بيئة العمل خاليةً من الكراهية والتمييز وبعيدة عن العلاقات الاجتماعية، وأن يحكمها قانون ومصلحة المؤسسة فقط.
لم تنصفني الوظيفة، ولا أشعر بالندم على تركها أبداً؛ ولكنني نادم على العمل في هكذا بيئةِ عملٍ، ومع مديرٍ لا مبالٍ، يرفض أن يتحمل المسئولية، ويترك المهام والأعمال على مرؤوسيه، فهم من يتحملون التعب والأخطاء والمشكلات الوظيفية، بينما هو مشغول في أمور أخرى كالبحث بين دهاليز الوزارة للحصول على منصب أعلى.