الأيديولوجيات الثلاث وتغييب الوعي القومي
ثلاث أيديولوجيات حصراً كان لكل منها وزنها في الحياة السياسية العربية، ولعبت دوراً محورياً في منتهى الأهمية في حركة التحرر الوطني العربية من الاستعمار الكولونيالي التي تعرضت له البلدان العربية ولاسيما في المشرق العربي، وذلك من خلال الأحزاب والتنظيمات التي تبنتها، كما لعبت أيضاً أدواراً متفاوتة الحجم في التحولات الاجتماعية أثناء استلامها السلطة التي وصلت إليها عبر انقلابات «ثورية» حظيت بدرجات متباينة من التأييد الشعبي، وهذه الايديولوجيات الثلاث هي: القومية، وأبرز نماذجها كانت في مصر الناصرية وسورية والعراق (البعث)، والايديولوجية الماركسية، ونموذجها الوحيد في اليمن الجنوبي تحت حُكم الحزب الاشتراكي الذي تأسس نتاج انصهار تنظيمات شاركت في الكفاح المسلح ضد المستعمِر الانجليزي، ومن خلال عملية معقدة من الصراعات فيما بينها داخل السلطة، وأخيراً الايديولوجية الإسلامية السياسية، ونموذجها الشمولي الأبرز في السودان تحت حكم نظام الجنرال عمر البشير في السودان الذي وصل للحكم من خلال انقلاب عسكري 1979على حكومة المهدي المنتخبة.
ومع أن مُنظري ومفكري القومية استلهموا زرعها في التربة العربية من الخارج (التجربة الألمانية خصوصاً) وكذلك استلهم مفكرو الماركسية قالبها من الخارج (النموذج السوفياتي تحديداً) ، إلا أن هاتين الأيديولوجيتين تمكنتا خلال الحقبة الكفاحية ضد المستعمِر من تعبئة قطاعات من الجماهير خلفها، وضم أعداد غير قليلة في صفوفها، في حين فشلت نماذجها المطبقة في الحُكم بعد الاستقلال وبناء الدولة الوطنية من المحافظة على التأييد الشعبي الذي تمتعت به إبان النضال الوطني؛ لإخفاق الحزب وزعيمه المُلهم في ضرورة تفادي الانزلاق في الأخطاء القاتلة، وضبط جُرعات النهج الاستبدادي ولو في نطاق الحكم الوطني المطلق، وحتى التحولات الاقتصادية والثقافية والتعليمية والاجتماعية والتي استفادت منها الفئات الفقيرة والمُهمشة، كما في النموذجين الناصري واليمني الجنوبي بوجه خاص، فإنه وبسبب تغييب النهج الديمقراطي جرى الإجهاز عليها من قِبل ما عُرفت بـ «قوى الثورة المضادة» أو «قوى اليمين». ولذا لم يكن غريبا أن تفضي تلك الإخفاقات المتراكمة لنماذج الأيديولوجيات الثلاث المُطبقة (الماركسية والقومية والاسلام السياسي) إلى كفر قطاعات واسعة من الجماهير بالفكر القومي برمته؛ بل وأن يقع حتى وعيها القومي الفطري في ضبابية ملتبسة. ويتحمّل منظرو الأيديولوجية القومية، وقادة أحزابها المسئولية لهذه الضبابية في نفوس وعقول الجماهير العربية العريضة؛ لفشلهم في تجديد الفكر القومي وفي نماذجه السلطوية المطبقة؛ بل والأخطر من ذلك فقد تسبب هؤلاء سياسياً في تشويش نقاوة الوعي القومي في الإنسان العربي، كحقيقة موضوعية مُجردة بمعزل عن النماذج المطبقة، ما أدى إلى زعزعة إيمان العرب بوجود رابطة قومية تجمعهم قوامها اللغة والتاريخ والتراث المشترك منذ ظهور الإسلام.
والتشويش لم ينعكس على الجماهير العادية فقط، بل انعكس أيضاً على قادة ومعتنقي الأيديولوجيتين الاشتراكية والاسلامية، جراء مالحق بحركاتهما من قمع بالغ القسوة في بلدان النماذج القومية الثلاثة (مصر وسورية والعراق)، إذ انعكست مآلات إخفاق التجارب الثلاث في عودة الانعزالية القُطرية، وانتعاش حركات الإسلام السياسي العربي، لا سيما وأن من بينها تلك التي عانت طويلًا أيضاً من عسف الأنظمة الدكتاتورية العربية القومية الثلاثة نفسها كالإخوان المسلمين في مصر وسورية وحزب الدعوة في العراق.
وفي النموذج الماركسي، سواء في السلطة -كما في اليمن الجنوبي- أو في الأحزاب الشيوعية خارجها، جرى تغييب إن لم يكن استهجان «الوعي القومي» بشكل مُطلق، ووُضع في تصادم غير مُبرر مع «الوعي الطبقي» في مُطلق الأحوال، وتم إعلاء الرابطة الأممية وفق نموذجها السوفياتي بنسخته الستالينية المتقادمة فوق الرابطة القومية الطبيعية للعرب، وغُيّبت إمكانية التوفيق بين الرابطتين نظرياً وعملياً، ولعل الحزب الشيوعي اللبناني هو الاستثناء بين الأحزاب الشيوعية العربية في إقراره وتعبيره نسبياً عن الوعي القومي بمعزل عن غياب التجديد في الفكر القومي وإخفاقات نماذجه الثلاثة. وقدم بعض مفكريه أو المحسوبون على خطه في سياق تبنيهم الفكر الاشتراكي إسهامات مُميزة نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، جورج حنا في كتابيه «معنى القومية العربية» و»تصويب القومية العربية» وغ
أما في العراق، أحد معاقل الفكر القومي، فقد كان للنهج الدكتاتوري لحزب البعث الحاكم في سلطة انقلاب 1963 ثم في سلطة انقلاب 1968، وخاصةً بعد انقضاض صدام حسين على القيادة 1979 وإزاحته أحمد حسن البكر الأكثر تعقلاً، أثره النفسي على مواقف الحزب الشيوعي العراقي وممارساته التنظيرية، فبات يتطيّر من مجرد ذكر مفاهيم مثل «الرابطة القومية» و»الوعي القومي» و»الاُمة العربية» و»العروبة»، وكأنها مصطلحات من إنتاج المفكرين القوميين؛ وذلك لمعاناته الطويلة لما لحقه من حملات قمعية، ومن هنا يمكننا فهم لماذا تمكن الحزب الشيوعي اللبناني من تفادي الوقوع في الخلط بين الحقائق والمفاهيم المجردة المتصلة بالقومية العربية، وبين النماذج القومية في الحُكم؛ حيث ان نشأة هذا الحزب جاءت في ظروف سياسية واجتماعية تاريخية مختلفة، شديدة الخصوصية عن البلدان العربية الثلاث الآنفة الذكر، وتطورت بعد الاستقلال (1942) في ظل نظام عربي ديمقراطي شبه ليبرالي غير شمولي، بصرف النظر عن عيوبه وأخذه بالمحاصصة الطائفية السياسية.
وتأسيساً على ماتقدم، ليس المطلوب بطبيعة الحال من اليسار الماركسي والإسلام السياسي التخلي عن أيديولوجيتيهما، وتبني الفكر القومي؛ بل إجراء مراجعات جريئة طال انتظارها لتعيد الاعتبار للخصوصية القومية التي تجمع العرب، وعدم نفيها بالمطلق تحت وهم أن الرابطة الأممية الشيوعية تعلوها، أو أن الرابطة الاسلامية التي تجمع مُسلمي العالم هي أقوى وأشد من الرابطة القومية التي تجمع العرب، فليست مشاعر ووجدان مسلمي العالم كلهم بقضهم وقضيضهم تجاه قضايانا العربية المصيرية هي بنفس درجة تأجج مشاعر ووجدان العرب وتفاعلهم بها، وإن كانت لا تخلو من بُعدها الإسلامي.
ومن المفارقات الصارخة الأشبه بالكوميديا السوداء، أنه مثلما وجدنا الشيوعيين العرب قدسوا النموذج السوفياتي والذي لم تحل شعاراته الاُممية دون اعتزاز الروس بأدبهم وتراثهم القومي الروسي، فقد اقتفى أثرهم الشيوعيون العرب بهذا الاعتزاز ذاته، أي بتراث الأدب الروسي منذ ماقبل ثورة اكتوبر الاشتراكية 1917، ووجدنا كذلك في الأيديولوجية الإسلامية فريقين عربيين أحدهما يعتز مفتوناً بالنموذج التركي بقيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم حتى مع طغيان النزعات القومية في ثنايا خطابه السياسي، واعتزازه بتراثه العثماني القومي، وفريق عربي آخر مازال مبهورا بشدة بلا أدنى حدود بالتجربة الإيرانية حتى مع ظهور نزعات قومية خجولة متوارية أو صريحة خلف شعاراته الإسلامية لا يخفي اعتزازه الشديد بتراثه القومي والحضاري الفارسي، وقد برزت تلك النزعات على وجه الخصوص بعد رحيل قائد الثورة التاريخي الإمام الخُميني العام 1989.