الإمعائية في الفكر
الانطلاق نحو آفاق التقدم والتطور في المجتمعات يتطلب بيئة مناسبة للإبداع تستند إلى احترام العلم والعقل، وتتيح مساحة واسعة أمام حرية الفرد مقابل سلطة وهيمنة المجتمع والثقافة السائدة فيه. ما يجعل مجتمعات كاملة تسير في مكانها أو تتخلف أكثر، هو انعدام الإبداع فيها والتزام الأفراد بمجموعة أعراف وتقاليد وقيم متوارثة وثابتة تحكم تصرفات الأفراد وتقيد حرياتهم.
من هنا فإن القرآن الكريم طالب أولاً بالتحرر من قيود وأعراف ومعتقدات الأجيال السابقة، وإطلاق العنان أمام التفكر وطرح الأسئلة الحرجة والجادة بشأن مختلف القضايا في محاولة لإثارة الفكر للوصول لبعض الإجابات المعاصرة وليست السابقة والمتوارثة.
الإمعائية تنتقل وتنتشر بين أفراد المجتمع عندما تهيمن الثقافة الموروثة التي لا تقبل الشك والتساؤل والتجديد، ويتحول المجتمع بجميع أفراده إلى أحجار شطرنج تتحرك بفعل اتجاهات المجتمع وعاداته وتقاليده، من دون أن يكون لأي منهم رأي مستقل أو وعي وإبداع.
البنية الثقافية في المجتمع التي تتكرس عبر عقود وقرون من الانتقالية الجامدة تضرب بجذورها في أعماق الفكر، وتتحول إلى ثوابت لا يمكن مقاومتها، أو حتى مساءلتها، وتتحكم في سلوك واتجاهات الأفراد. يكون معظم أفراد المجتمع نسخاً مكررة لبعضهم البعض، في أنماط التفكير والسلوك بل حتى في المظاهر العامة.
مناهج التعليم التي تعتمد أساساً على التلقين بدل الحوار والنقاش، والأسرة التي تقمع أي شكل من أشكال الاختلاف لدى أبنائها، والمدارس الفكرية التي تحارب أي رأي أو اجتهاد تجديدي، والإعلام الذي يكرس سيادة خطاب أحادي، كلها نماذج تعزز حالة الإمعائية وتربي على التبعية والتقليد، وبالتالي تهدم أية محاولة بناء فكري جديد ومبدع.
المجتمعات التي تقدمت ولاتزال تتقدم في هذا العالم هي التي هيأت بيئات رحبة للإبداع، وحفزت العقول على التفكير خارج الصندوق، واستقطبت العقول المهاجرة والمحلية ضمن بيئة تنافسية جادة، وودعت وسائل التلقين وأنماط التفكير التقليدية.
وأي مجتمع أمامه فرص للتقدم والتطور، عندما تتوافر الشروط الموضوعية لذلك، وتنطلق طاقات وكفاءات شبابه نحو رحابة التنافس بثقة وجدارة. أما المجتمعات المنغلقة على ذاتها والمتقيدة بثقافة لا تتماشى مع عصرها، فهي ستظل عالة على عالم التقدم والتطور وستبقى حبيسة بيئة متخلفة لا تستطيع اللحاق بزمانها والتفاعل معه.