على هامش الإنسانية
في أحد تفرعات شارع اللولو الداخلية، الذي يسمى بنغالي غالي (غالي تعني الشارع باللغتين الهندية والباكستانية)، لم يتبق أثر للهوية البحرينية، فقد كانت فرشات الخضروات تزاحم السيارات على حافتي الطريق الضيقة ذات الاتجاه الواحد. الخضروات تختلف عن تلك الخضروات التي نراها دائماً وقد صُفّت أيضاً بطريقة مختلفة. كل الأصوات المتناثرة غير مفهومة، ومئات الوجوه التي ينشغل أصحابها في البيع والشراء والترويج، وفي المطاعم ومحلات الألبسة على امتداد 500 متر حتى وصلت إلى المبنى، لم يكن بينها وجه بحريني واحد.
كانت الساعة الرابعة عصراً وقد مرّ يومان على اندلاع الحريق في مبنى يسكن شقق طابقيه الثاني والثالث عمّال بنغاليون، ولازال العشرات من ضحايا الحريق يفترشون أرض الشارع، ويهبّون لأوّل غريب يزور المكان أملاً أن يجلب معه بعض الانفراج لمصيبتهم بعد أن أصبحوا مشرّدين بلا مأوى منذ الساعة العاشرة من مساء السبت، أي قبل يومين حتى كتابة هذا العمود. هذه الليلة ستكون الثالثة التي سيبيت 47 عاملاً من أصل 106 تشرّدوا بعد نشوب الحريق في المبنى، وإغلاقه من قبل الشرطة حتى استكمال التحقيق، في الشارع، مفترشين قطعة كبيرة من النايلون أسمك قليلاً من ذلك المستخدم للسفرة.
طرحت أسئلتي على العمال لأحدّث معلومات لجنة السلامة العمالية في جمعية حماية العمال الوافدين التي تتابع مستجدات الحريق منذ اللحظات الأولى، بحكم عضويتي فيها، فكانت الإجابات:
- غالبيتنا «فري فيزا»، لا نعرف الكفيل لأننا جئنا عن طريق وسطاء.
- نتوزع على شقق المبنى الذي أتى الحريق على الطابق الثاني كله منه، وغالبية الطابق الثالث، كل 25 شخصاً يقتسمون شقةً من الشقق ذات الأربع غرف، بإيجار قدره 8 دنانير لكل شخص .
-تتراوح رواتبنا ما بين 90 و120 ديناراً في أعمال التنظيف والمقاولات، نعمل في أعمال إضافية كغسيل السيارات والبيع في الشوارع في المساء وفي أيام الإجازات.
-جاء ممثل من السفارة بعد اندلاع الحريق ووعدنا أن يساعدنا بإيجاد مأوى ووجبات ولم نره منذ ذلك الوقت.
-غالبيتنا ليس لدينا وثائق سفرنا، احتفظ بها الوسيط الذي استصدر لنا تأشيرة الدخول .
- لم نتمكن من الدخول إلى المبنى منذ اندلاع الحريق ولا نعرف ماذا تبقى من حاجياتنا.
-ذهب بعضنا ليقيموا مع الأصدقاء وبقي معظمنا هنا ننام في الشارع، ونذهب إلى دورات المياه في مسجد قريب.
-حصلنا على ملابس وبطاقات هاتف وكوبونات وجبات من مطاعم قريبة لمدة 3 أيام من الجمعية، ولا نعرف ماذا سنفعل بعد ذلك ولا نعرف كم سنبقى هنا؟
كان العمال يجيبون بوجوه بائسة ويائسة على كل الأسئلة، وكأنهم كرّروا الإجابات مرات كثيرة من قبل. هؤلاء العمال هم الطرف الأضعف. وبقية الأسئلة الأكبر التي توجّه للطرف الأقوى:
-هل من الصعب معرفة عصابة تجار البشر التي تتحمل وزر هذه المعاناة التي يتعرض لها هؤلاء العمال في هذه الحادثة تحديداً حيث تتوافر جميع عناصر وأفراد الجريمة في مكان وزمان واحد؟ هذه العصابة التي تتكوّن من الكفيل البحريني الذي يستصدر التأشيرات ويبيعها لطبقات السماسرة على امتداد المسافة بين البحرين وبنغلادش.
-هل يجوز أن يكون لدينا مأوى صُمّم وفق معايير عالمية في الجودة والأناقة والمرافق لإيواء ضحايا الاتجار بالبشر، لكنه لا يستقبل هذه الحالة الطارئة والنسخة الأسوأ من ضحايا تجارة البشر!
-هل يجوز أن يُعلن في كل وسائل الإعلام أن هناك أكثر من 100 إنسان تعرض مبناهم للحريق وأصبحوا مشردين ولا يوجد جهة رسمية تتولّى إيواءهم؟ بحجة أن هؤلاء هم عمال غير قانونيين وأن إيواءهم سيوجب القبض عليهم وبالتالي ترحيلهم!
-هل يُعقل أنه وعلى رغم تكرار هذه الحوادث في سكنات العمال، لم توضع خطة طوارئ، ولا خطة وقاية وحماية لهؤلاء العمال!
-عندما يكون كفيل هؤلاء الذين تشرّدوا في مأمن وبعيداً عن الحدث، بل ربما هو لا يدري أن هؤلاء الذي يعانون كسب معيشتهم في هذا الوقت الصعب وهؤلاء الذي أتى الحريق على ممتلكاتهم ومدخراتهم البسيطة ربما، هم تحت كفالته، ألا يُطمئن ذلك تجار البشر الآخرين ويمنح ضميرهم جرعة من السكينة والاطمئنان ويشجع آخرين على دخول هذه التجارة قليلة المخاطر ومضمونة العوائد؟
- هل من الصحي ديموغرافياً أن تتحوّل هوية أحياء بكاملها، بسكانها وبضائعها وبقالاتها ومطاعمها والأسماء على يافطات محلاتها إلى هويّه أجنبية جديدة؟
الجالية البنغالية بلغ حجمها 180 ألفاً، تشكل أكثر من 28 في المئة من إجمالي العمالة الأجنبية، وأقل قليلاً من 10 في المئة من إجمالي عدد السكان، من بين هؤلاء 50 ألف مخالف بحسب مسئول في سفارة بنغلادش («الوسط»، 4 مارس 2017). هذا المسئول أعلن قبل شهرين وقف السماح للعمالة البنغالية من المجيء إلى البحرين، بعد أن بات يرد السفارة ما بين 50 و60 شكوى يومياً من قبل عمال بنغاليين يتعرّضون لمختلف أنواع الإساءة، وعلى رأسها الحرمان من الراتب وسوء أوضاع العمل.
حادثة الحريق، وتشرّد العمال، وغياب الجهات المسئولة عن تحمّل مسئولياتها وترك هذه المسئولية على جمعيات أعضاؤها متطوّعون يشحتون المساعدات الخيرية لتخفيف معاناة المتضررين، ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة مادام المسئول ينام في فراشه الوثير، ولا يعرف كيف هو النوم على الأرصفة القذرة التي تفصل الأجساد عنها ورقة من «الكرتون» المقوّى أو بساط النايلون؛ وما دام تاجر البشر يحصّل أتاوته كاملةً غير منقوصة؛ ومادام وسطاء تجارة البشر في مأمن من العقاب؛ ومادام الضحايا راضين بأوضاعهم المزرية؛ بل مضطرين لها ويختبئون عن العيون كي لا يُقبض عليهم متلبسين بجريمة بؤسهم وحاجتهم.
في ديسمبر/ كانون الأول الماضي انهالت دموع رئيس وزراء كندا، جاستن ترودو، عندما عرف من لاجئ سوري، كيف أثّرت فيه الكلمات التي استقبله بها ترودو قائلاً: «أهلا بكم في بيتكم» وهو الذي خسر بيته وأرضه ليجد بعد المعاناة لأشهر طويلة، مكاناً يؤويه، وكيف نقلته كلمات رئيس الوزراء الإنسان وتعاطفه من حال إلى حال. رئيس الوزراء الكندى الكاريزمي ذو القلب والمظهر الرقيق، ليس مضطراً أن يتحمّل أخطاء أنظمة بائدة في حق شعوبها، وليس بالضرورة أن يكون لدى بلده مأوى للمشردين من بلدانهم، أو قوانين مشرّعة سلفاً لمثل هذه الأوضاع، لكن في الكوارث يشحذ أصحاب المسئولية كل إمكانية للتخفيف عن الضحايا، فالإنسانية ليس لها مذهب وليس لها لون وليس لها عرق؛ بل لها لغة كونية تتحدثها القلوب المتشابهة.
هذا الوضع لن يتغيّر حتى يأتي من يمتلك العزم الحقيقي لإلغاء عبودية نحو 10 في المئة من السكان هم من حملة «الفري فيزا»، ومن يغلّب حقوق الإنسان بمعناها الواسع بما فيها حقوق العمال على الأولويات التي يُسعى للتفاخر أمام العالم، ومن يرى في الهوية البحرينية بنداً لا يُمس.