بين التسريبات وخلق «رأي عام مصطنع»
لم تعد ظاهرة، أو حالة استثنائية أو حتى غير متوقعة، أن تعلم بما سيحدث في البلاد وما سيجري على العباد من خلال حسابات محددة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى قبل أن يعلن عن ذلك رسمياً، أو حتى تلميحياً.
سيذهب البعض للحديث عن اختراق يحدث في الجهات الرسمية، وما يكثر فيها من تسريبات هو من محض المصادفة، أو نتاج وجود موظفين تقع بين أيديهم معلومات معينة، ويتحدثون عنها في جلساتهم ومجالسهم... ولكن هل تلك الحوادث التي تتكرر في مختلف الجهات الرسمية كانت مصادفة؟
الواقع يحدثنا بعكس ذلك، فلم تمر حادثة سواء كانت صغيرة أم كبيرة، إلا وقد أعلن عنها من قبل، وعبر حسابات معروفة سواء كانت بأسماء وهمية أم حقيقية، وعلى إثرها وبعد أن يتناقلها الناس، ويتم تداولها بشكل واسع تخرج الجهات الرسمية بإعلان المعلومات ذاتها بشكل رسمي.
ما حقيقة ما يحدث، فهل كل ما نسمعه ونشهده يمكن أن نصنفه ضمن تسريبات سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة، أم توجيهات واضحة لتحريك فئات معينة وتحشيدها لخلق «رأي عام مصطنع» ومن ثم الدخول عملياً في تنفيذ تلك التسريبات بحجة أنها أصبحت مطلباً شعبياً!
المشهد برمته ليس جديداً، بل هي لغة كانت سائدة بعد مارس/ آذار 2011 واستمرت بعض الحسابات لمدة عامين تقريباً حتى تم إخفاؤها تدريجياً لأسباب كثيرة، من أهمها احتراق تلك الأداة بعد انكشافها أو تمرد بعضها.
تحدثنا من قبل عن عودة الحسابات «الوهمية» عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي نشطت من جديد في السعي لنشر صور معارضين من قيادات سياسية أو محتجين ومعتصمين، ووصفهم بـ «الخونة»، وتحريض المؤسسات الرسمية على اعتقالهم، والتحقيق معهم، بل وفصلهم عن أعمالهم.
عودة الحسابات التي تحرض أو تسرب وتكشف عن معلومات معينة وتخلق وراءها رأياً عاماً مصطنعاً من مجموعة حسابات أخرى، لم يكن وليد مصادفة، وذلك بعد أن أصبحت البيئة السياسية والأمنية مناسبة لبروزها من جديد، لتلعب الدور ذاته الذي لعبته شبكات قبل سنوات، والتي انتقدها الجميع، وسلط تقرير لجنة تقصي الحقائق الضوء عليها.
تقرير لجنة تقصي الحقائق، الذي وصف بأنه كان بمثابة «الدواء المر» الذي لابد من تجرعه لعلاج تداعيات أزمة، ذَكَرَ قصصاً بدأنا نستشعر عودتها من جديد.
من بين أهم ما أشار له التقرير، هو عمليات تشويه سمعة محتجين، من خلال نشر صورهم، أسمائهم، وأماكن وجودهم وحتى بياناتهم الشخصية، وتحدث التقرير أيضاً عن تورط مجموعة معينة ذكرها بالاسم (الفقرة 1637) في «مضايقة بعض الأفراد وتهديدهم وسبِّهم وقذفهم، بل وصل في بعض الحالات إلى تهديدهم بأعمال توشك أن تقع بهم»!
سيذهب البعض للحديث عن أن ما يحدث حالياً أو حتى سابقاً كان في إطار التصرفات الشخصية وغير المسئولة، ولكن تكرارها الدائم ودقة معلوماتها، بل تطابقها في الكثير من الأحيان مع خطوات رسمية تحدث لاحقاً، يثير الكثير من الشكوك.
بعض تلك الحسابات شغلت الرأي العام وبقيت مستمرةً في عملها من دون توقف ومن دون رادع، ومن دون حسيب أو رقيب، مع بعض الحيثيات التي كانت تشوبها مع محاولات تصدٍّ لها، سريعاً ما كانت تبوء بالفشل لأسباب يعرفها الجميع.
بعض الحسابات والشبكات التويترية (التي أغلق بعضها) كانت تمتلك كمّاً كبيراً من المعلومات السرية وغيرها، وفي وقتنا الحالي نعتقد أن هناك من يعمل على إعادة تدوير تلك الحسابات المختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل منهجي لحرف الرأي العام، وخلق «رأي عام مصطنع»، وتأليب فئات معينة على شخصيات وجمعيات وجهات معينة، ومن ثم اتخاذ مواقف ضدهم وإصدار قرارات بحقهم.
بعد كل ذلك بات واضحاً أنه لا مساحة للمصادفات، لأن ما يجري يبدو وكأنه يسير وفق منهجية تستهدف أموراً محددة، وهي في نهاية المطاف تعتبر من أساليب التضليل المكشوفة.