تكريم الشخصيات الفاعلة في حياتها أولى من تكريمها بعد مماتها
اعتادت أغلب المجتمعات العربية والإسلامية تكريم رجالاتها البارزين في مختلف المجالات العلمية والاجتماعية والإنسانية والثقافية والفكرية والأدبية والإعلامية والسياسية والاقتصادية، بعد انتقالهم إلى الرفيق الأعلى، وأما في حياتهم نجدها في الغالب تتجاهلهم أو تتغافل عنهم ولا تحاول تعريفهم للأجيال الواعدة، وإذا ما توفاهم الله، تبدأ في تنظيم الاحتفالات التأبينية، وتلقى فيها الكلمات والقصائد الشعرية، التي تشيد بالمكانة البارزة والعطاء الكبير لهذا الفقيد أو ذاك، وكأن الفقيد المرموق في مجتمعه لا يستحق التكريم والإشادة به إلا بعد وفاته.
غريب وعجيب ما يحدث في مجتمعاتنا العربية والإسلامية تجاه رجالاتها العظماء، ونسائها العظيمات، الذين لهم بصمات بارزة في مجتمعاتهم الإنسانية، لماذا لا يكرمون ولا يشاد بإنجازاتهم وعطاءاتهم الخيّرة إلا بعد رحيلهم من هذه الدنيا؟ أليس الأولى أن يكرموا في حياتهم، كثير من الرجال والنساء لم يعملوا من أجل أن يمدحهم الناس، ويشيدون بهم في المحافل والمنتديات الاجتماعية، كل عملهم الذي يقدمونه لمجتمعاتهم كانوا يرجون من ورائه مرضاة الله، وإرضاء ضميرهم الذي ينبض بالحياة والمحبة لكل الناس، فالمجتمعات المبادرة في تكريم شخصياتها البارزة من الرجال والنساء، والإشادة بالأعمال التي يقدمونها لمجتمعهم في حياتهم، من أجل أن يزيدوا في عطائهم الخيّر، وفي مختلف المجالات، بالتأكيد لو كل مدينة وقرية في بلدنا البحرين تخصص يوماً في كل عام لتكريم شخصياتها الكبيرة، في عطائها وأخلاقياتها، لكان لهذا العمل الأثر الكبير على نفوس ومعنويات تلك الشخصيات المكرمة وعلى عوائلهم ومحبيهم.
التغافل عن تكريم الكبار في مجتمعاتنا، يفقدها الكثير من حيويتها ونشاطها ويضعف معنوياتها، ويجعلها نمطية في برامجها ورتيبة في أعمالها، نعتقد أن ليست هناك مدينة أو قرية خالية من الشخصيات البارزة، سواء كان بروزها في الأعمال التطوعية أو في التخصصات العلمية والأدبية والثقافية والتربوية، وغيرها من الأعمال المفيدة للمجتمع، فتكريمهم بلا شك سيحفز غيرهم من الأجيال المقبلة على تنمية وتطوير قدراتهم ومهاراتهم في مختلف المجالات، وسيجعل للمجتمع مكانة لائقة ومتميزة ورائدة في عدة مجالات، في المجتمعات التي كان لها السبق في إبراز شخصياتها ورجالاتها، من الأدباء والعلماء والشعراء، على المستوين، المحلي والخارجي، الذين تغنت بعطاءاتهم العلمية والأدبية والشعرية، المجتمعات العربية والإسلامية سنوات طويلة ومازالت تتغنى بهم، كان بفضل مجتمعاتها التي عاشت في أوساطها بكل جوارحها وجوانحها، على رغم قلة الوسائل الإعلامية التي لديهم، فلو لم يحصلوا على دعم من مجتمعاتهم لما وصلت سمعتهم إلى مختلف بقاع العالم، ولما حظوا بكل هذه الشهرة، ولما بقت أسماؤهم لامعة وهاجة حتى وقتنا الحاضر.
في بلدنا البحرين لدينا شخصيات كثيرة بارزة في أوساطها الاجتماعية، بعطاءاتها الخيرية والإنسانية والاجتماعية والأدبية والعلمية، ومن حقهم أخلاقياً تكريمهم في حياتهم، وليس بعد مماتهم وانتقالهم إلى الرفيق الأعلى، لأن التكريم في حياتهم هو تكريم لهم، وأما التكريم بعد وفاتهم هو تكريم لغيرهم، فالمكرم إذا لم يكن حاضراً فعلياً وقت تكريمه، لن يكون للتكريم أثر معنوي مباشر عليه، فالقصد من التكريم هو إشعار الشخصية المكرمة بقيمتها الإنسانية في وسط مجتمعها، ولم يكن القصد منه أن نبين لأهلها وذويها ومحبيها بعد مماتها قيمتها الإنسانية أو الأدبية أو العلمية، نأمل أن تنال شخصياتنا البحرينية المتألقة، اجتماعياً وأخلاقياً وعلمياً وأدبياً، حقها من التكريم والتبجيل والتقدير الذي يليق بمكانتها المتميزة، وألا نجعلها تعيش الغربة في بلدها وبين أهلها، فليس تكريمها إلا تكريماً للمبادئ الإنسانية والأخلاقية القيمة التي كانت تتبناها.
وفي هذه الأيام حري بمجتمعنا أن يكرم الشخصيات من الرجال والنساء، الذين يعملون بكل جد وإخلاص في ترسيخ العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين جميع مكونات الوطن، التي أحدث فيها المتمصلحون والساعون لتحقيق مصالحهم الشخصية والفئوية شرخاً عميقاً، مازلنا نتذكر تلك الشخصيات الكبيرة التي وقفت بكل طاقاتها وإمكاناتها المتاحة في وجه من يريد لهذا الوطن السوء، من خلال وأد الفتن قبل استفحالها بين مختلف فئات المجتمع، ولأنها كانت صادقة في حبها لوطنها، تمكنت من ترسيخ العلاقات الاجتماعية وجعلها أقوى من كل وقت، فالتاريخ قد كتب عنهم بأحرف من نور، كما كتب عن الذين سعوا جاهدين إلى إشعال الفتن الطائفية والمذهبية بأحرف كالحة، ومازال قلم التاريخ يكتب عن الخيّرين في صفحاته البيضاء الناصعة، ويكتب عن المفسدين الشريرين في صفحاته السوداء القاتمة، فالذي يقول للناس خيراً يُكتب عنه خير، ومن يقول لهم شراً يُكتب عنه شر، فقلم التاريخ الصادق لا يعرف المجاملات ولا المحاباة ولا التدليس، ولا قلب الحقائق ولا تزوير المعلومات وتحريفها.