«تجربة هونغ كونغ»... من قرية صيد صغيرة إلى نموذج عالمي (2)
تناولنا في المقال السابق الملامح العامة لتجربة «هونغ كونغ» الاقتصادية وبعض المراحل التاريخية المهمة التي مرت بها، ثم عرجنا على أبرز النتائج التي تحققت في السنوات الأخيرة، وخاصة على الصعيد الاقتصادي الذي شهد انتعاشة قوية لبورصة هونغ كونغ، وعملتها الوطنية «الدولار الهونغ كونغي»، وكيف ازدهرت على الصعيد السياحي والصناعي والتكنولوجي والتعليمي، وفي المجمل كيف تحوّلت من بلد فقير يبلغ متوسط دخل الفرد فيه قرابة الـ500 دولار سنوياً، إلى بلدٍ متقدمٍ أغلب شعبه متعلم «تعليماً رفيعاً» ويبلغ متوسط الدخل فيه الآن نحو 65 ألف دولار وفق آخر إحصائيات 2016.
أما كيف حققت هونغ كونغ هذه الطفرة العملاقة في كل مناحيها الاقتصادية فهذا ما سنتطرق له في مقال اليوم.
عندما بدأت هونغ كونغ بالتحوّل إلى مركز مالي في التسعينات (لاحظ الشبه مع التجربة البحرينية في وقت سابق عن هذا)، تأثّرت بدرجة كبيرة بتداعيات الأزمة المالية الآسيوية التي ضربت المنطقة عام 1998، ثم مرةً أخرى في العام 2003 نتيجة انتشار الالتهاب الرئوي الحاد (سارس). وفي هذه الفترة، حدثت نهضة جديدة بالطلب العالمي والمحلي أدت إلى انتعاشة اقتصادية قوية، وعزّز انخفاض الأسعار من منافسة صادرات هونغ كونغ في السوق العالمية لتنتهي فترة ضعفٍ طويلة.
بدأت الحكومة الاستعمارية البريطانية في نهاية التسعينات بالتدخل في اقتصاد هونغ كونغ، واستمرَّ هذا الأمر منذ العام 1997 وتزايد باستمرارٍ مع تقديم ضمانات رصيد الصادرات الائتماني والحد الأدنى للأجور والقوانين المعادية للتعصُّب. لكنني أعتقد أنه من الأسباب الرئيسية لنجاح تجربة «هونج كونج» التنموية هو تبني سياسات الانفتاح التجاري والثقافي على العالم، واستغلال موقعها الجغرافي في المحيط الآسيوي لتسهيل تدفق السلع والخدمات والموارد البشرية والمادية، وخفض مستويات البيروقراطية والفساد الإداري لمستويات متدنية. وقد ساعد صغر الحجم، وانخفاض تكلفة الخدمات الدفاعية في تحقيق نجاحات متميزة خلال فترة محدودة من الزمن.
هناك أمران متكاملان اتبعتهما هذه الدولة لتحقيق نهضتها، وهما الانفتاح على التكنولوجيا الحديثة والمشاركة فيها من ناحية، ووجود «النظام الاقتصادي» المناسب الذي يستطيع من خلال مؤسساته تقبل هذه التكنولوجيا ويساهم فيها ويطوّرها من ناحية أخرى. وهكذا فإن الاهتمام بتطوير الاقتصاد يتطلب مراعاة هذين الأمرين بكل تأكيد.
سر آخر من أسرار نجاح تجربة هونغ كونغ، هو قدرة الدولة على تحقيق توافق بين سياسات بناء القدرات والمهارات، وبين الطلب على هذه المهارات من خلال نظام التعليم، في كل مرحلة من مراحل التنمية الاقتصادية، التي تمر بها الدولة، وهو نهج تسعى البحرين فعلياً إلى تحقيقه خلال السنوات الماضية.
من الدراسات المهمة التي تناولت تجربة هونغ كونغ، دراسة أعدتها الباحثة أريج دياب بوزارة التجارة الخارجية الإماراتية عن هونغ كونغ وتجربتها الاقتصادية، أظهرت أن المراحل التاريخية التي مرت بها هونغ كونغ أثّرت على مستوى اقتصادها المحلي، وعلى مدى انتقال التكنولوجيا المستوردة على اقتصادها، والذي ساعد في تحوّلها من الاعتماد كلياً على مينائها البحري وتجارتها البسيطة والمنحصرة في الصناعات الخفيفة إلى الصناعات الموجهة نحو التصدير، وإعادة التصدير والصناعات الرأسمالية ذات التكنولوجيا العالية، فضلاً عن استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة إليها، نظراً لموقعها ولمختلف الحوافز والإعفاءات الخاصة برؤوس الأموال الأجنبية.
وأكدت الدراسة أنه على رغم قلة مساحة هونغ كونغ، وقلة مواردها الطبيعية والمائية إلا أنها استطاعت تحقيق تنمية كبيرة في النشاط الصناعي والتجاري والسياحي والمصرفي بفضل توجّهها نحو الخارج، واتباعها لسياسة التصدير ما أتاح نمو صادراتها وتبوء مكانة متقدمة في التجارة العالمية، والذي انعكس بدوره على مستوى معيشة الأفراد.
واعتبرت الدراسة أن الموقع الجغرافي والحكم البريطاني لها والذي ركّز على تحويلها إلى مركز لسحب الأموال من العالم الخارجي، والإقليم الآسيوي والمتاجرة فيها بالإضافة إلى العلاقة مع الدولة الأم الصين، عوامل ساهمت في نجاح هونغ كونغ.
عامل الدعم الاقتصادي من الولايات المتحدة يعد أساسياً في نجاح هونغ كونغ، وذلك عن طريق زيادة الحصص الاستيرادية الممنوحة وتوفير أشكال مختلفة من الدعم والحماية للمصدرين، وتدفق الاستثمارات والتكنولوجيا الأميركية بالإضافة إلى العمالة الرخيصة، وتقديم الحوافز والإعفاءات لرؤوس الأموال الأجنبية خاصة بنظام المناطق الحرة مع تقليل ضوابط الحماية إلى أقل مدى ممكن.
في نهاية المقال، نستطيع القول إنه من الممكن استخلاص بعض الدروس والعبر التي يمكن أن تكون مفيدةً لتحقيق نهضة مماثلة أو شبيهة وفقاً لظروف البحرين وإمكاناتها. وتتلخّص أهم الدروس المستفادة من تجربة هونغ كونغ، هو دور الدولة في وضع التخطيط بعيد المدى، والسياسات التنموية الملائمة لطبيعة الدولة، التعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص من أهم روافد التنمية المستدامة، وتحقيق الرؤية المستقبلية وتنفيذ الخطط الاستراتيحية للدولة؛ التوجه نحو تطوير التعليم ومخرجاته بالشكل المناسب لاحتياجات السوق المحلي وفرص التوظيف؛ وأخيراً مواكبة التطور التكنولوجي المذهل على كافة الأصعدة وخاصة الخدمات والاقتصاد والتعليم.