تجربة «هونغ كونغ»... من قرية صيد صغيرة إلى نموذج عالمي (1)
تحدّثنا في مقال سابق عن تجربة «سنغافورة» الاقتصادية، وكيف تحوّلت هذه الدولة الصغيرة المساحة، الضئيلة الموارد إلى نمر آسيوي ذي مخالب اقتصادية حادة، وكيف تحوّلت من بلد فقير يبلغ متوسط دخل الفرد فيه قرابة الـ500 دولار سنوياً، إلى بلد متقدم أغلب شعبه متعلم «تعليماً رفيعاً» ويبلغ متوسط الدخل فيه الآن نحو 65 ألف دولار وفق آخر إحصائيات 2016، وجاءت في المرتبة الثالثة عالمياً بعد قطر ولوكسمبورغ، وقبل دول كثيرة عملاقة اقتصادياً.
وقلنا إن الهدف من ذكر تجارب هذه الدول هو التشابه الكبير بينها وبين البحرين في الظروف الجغرافية من حيث المساحة وطبيعة الأرض، والاقتصادية من حيث الموارد وعدد السكان، وفي بعض الأحيان تميل المقارنة لصالح البحرين، وبالتالي فإن الاستفادة من هذه التجارب أو دراستها ربما يسهل علينا إيجاد حلول اقتصادية لبعض المشكلات التي يعاني منها الشارع التجاري، أو تطوير الأداء الاقتصادي في المجمل لتحقيق أكبر منفعةٍ ممكنةٍ من الموارد المتاحة.
اليوم سنتحدث «بإيجاز» عن تجربة هونغ كونغ، ومعنى الاسم باللغة الصينية «الميناء العطر» – ويجب أن يعلم القراء الأعزاء أن الحديث هنا ملخص جداً لأن هذه التجارب نُشر عنها كتب ودراسات أكاديمية في الكثير من دول وجامعات العالم - وهي إحدى المنطقتين الإداريَّتين الخاصَّتين التابعتين لجمهورية الصين الشعبية (إلى جانب مكاو). تقع مدينة هونغ كونغ على ساحل الصين الجنوبيّ، محصورةً بين بحر الصين الجنوبي ودلتا نهر اللؤلؤة، وتتميَّز بناطحاتها السحابيَّة الكثيرة ومينائها الفَسِيح. ويبلغ عدد سكَّان هونغ كونغ نحو سبعة ملايين نسمة ومساحتها 1.104 كم2، وهي تضمُّ بذلك إحدى أكبر الكثافات السكّانيَّة في العالم (تشابه كبير مع البحرين هذا الشأن). ومن هنا برزت الحاجة إلى بنية تحتيَّة تسمح بكثافة سكانية أكبر، وحوَّلها ذلك المدينة إلى مركزٍ للعمارة الحديثة وجعل منها المدينة الأكثر علواً في العالم. ويتألَّف 93.6 في المئة من السكان من الصينيّين من قومية الهان الذين تعود أصولهم إلى مدينتي غوغانغزو وتايشان في مقاطعة قوانجدونج المجاورة، والباقون من عرقيَّات متعدّدة.
ظلَّت هونغ كونغ حتى نهاية العصور الوسطى مجرَّد قرية صيدٍ صغيرةٍ (قارن مع مهنة الغوص والصيد في البحرين) ولم يكن لها أي شأن اقتصادي كبير. ثم وقعت المدينة تحت سيطرة الإمبراطورية البريطانية في أعقاب حرب الأفيون الأولى (1839-1842م)، لتتوسَّع حدودها لتضمَّ مقاطعةً أوسع تشمل شبه جزيرة كولون ثم الأقاليم الجديدة فيما بعد. في منتصف القرن العشرين، تعرَّضت المدينة للاحتلال الياباني، لكنَّ بريطانيا استعادتها بعد الحرب العالمية الثانية، وظلَّت مستعمرةً بريطانيَّة حتى العام 1997 (قارن مع الاحتلال البريطاني للبحرين)، عندما أعيدت ملكيَّتها أخيراً إلى الصّين.
العلاقة بين هونغ كونغ والدولة الأم (الصين) ساهمت في تنويع اقتصاد هونغ كونغ التي تميّزت بتحوّلها إلى قطاع خدمي شكّل أكثر من 90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ويوجد في هونغ كونغ أكثر من 100 بنك وأربعة أسواق مالية تعمل على تمويل البنوك والمشروعات، وتعد بورصة هونغ كونغ – التي تأسست لأول مرة باسم «رابطة وسطاء هونغ كونغ» في العام 1891 وأعيد تسميتها مرة أخرى العام 1914 - سادس أكبر بورصة في العالم، بها نحو 1500 شركة عالمية مدرجة في قوائمها من جميع أنحاء العالم بقيمة سوقية تقترب من الثلاثة تريليونات دولار أميركي، وهي أكبر بورصة في الصين، ولديها سياسات أكثر تساهلاً للمستثمرين الأجانب بالمقارنة مع بورصة شنغهاي للأوراق المالية. وتقوم البورصة بنشر مؤشر هانغ سينغ، والذي يعد واحداً من أهم مؤشرات التداول في العالم. وعلى رغم المنافسة الشديدة بين أسواق المال المختلفة في هونغ كونغ وباقي البورصات في الصين وآسيا، إلا أن تلك البورصة بقيت هي الرائدة في هونغ كونغ حتى يومنا هذا.
وتستعمل في المدينة عملة دولار هونغ كونغ، والتي تُصنَّف كثامن أكثر عملةٍ متداولة في العالم، ولا زال اقتصاد هونغ كونغ اقتصاداً رأسماليا كبير التطوُّر، إذ يُصنَّف حسب مؤشر الحرية الاقتصادية على أنه أكثر الاقتصادات حريَّة في العالم بأسره كل سنة منذ العام 1995 وحتى العام الماضي 2016 (تلتها سنغافورة ونيوزيلندة، وسويسرا وأستراليا، بالترتيب). وتعتبر مدينة هونغ كونغ مركزاً تجارياً ومالياً مهماً، يضمُّ أحد أعلى كثافات مقار الشركات التجارية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وتشتهر بكونها واحدةً من النمور الآسيوية الأربعة لتطورها ونموها السريع منذ ستينات القرن الماضي وحتى الآن.
إلى جانب ذلك يزور هونغ كونغ أكثر من مليوني سائح سنوياً، حيث تدر السياحة أموالاً كثيرة تدعم اقتصاد هونغ كونغ وتجعله قوياً. ومنذ الخمسينات أصبحت مركزاً صناعياً مهماً حيث يوجد بها 38 ألف مصنع، تقدّم الكثير من المنتجات المصنّعة وتصدر الكثير منها أيضاً، حيث تشكّل المنسوجات والملابس نحو 50 في المئة منها، وتصدر أيضاً كميات كبيرة من المعدات الإلكترونية والسلع المعدنية ومنتجات البلاستيك.
وكانت هونغ كونغ ثامن أغلى مدينةٍ في العالم، لتتراجع من المرتبة الخامسة التي شغلتها. كما أنها تُصنَّف الرابعة عالمياً في ترتيب نسبة العائلات المليونيرية من السكان، لتأتي بعد سويسرا وقطر وسنغافورة، حيث تمتلك 8.5 في المئة من كافَّة الأسر الهونغ كونغية ما لا يقلّ عن مليون دولارٍ أميركي.
أما كيف حققت هونغ كونغ هذه الطفرة العملاقة في كل مناحيها الاقتصادية، فهذا ما سنتناوله بالتفصيل في المقال المقبل إن شاء الله.