العدد 5341 بتاريخ 21-04-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةالأعمدة
شارك:


مشروع المكتبة الوطنية الأميركية الرقمية... من يعرقله؟

في المقال السابق خلصنا إلى المفارقة التي غدت عليها الامبريالية الأميركية مع دخولها طور العولمة، ففي الوقت الذي أحرزت البلاد تطوراً هائلاً مُذهلاً في تقنية المعلومات والاتصالات، وقفزة عظمى في التقدم التكنولوجي والصناعي في مختلف المجالات، بدت في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي وكأنها عاجزة عن إيصال رؤساء ُمنتخبين إلى «البيت الأبيض» تعكس شخصياتهم ما بلغته دولتهم العظمى من تطور مذهل في تلك الميادين، ذلك بأن من وصلوا إلى سُدة الرئاسة مذاك لا يكادون يلمون بالحد الأدنى المفترض فيهم -كرؤساء لأقوى دولة عظمى في دُنيانا- من الثقافة السياسية والتاريخية العامة، ولو على الأقل عن دول العالم المُهمة.

الأكثر غرابة أن هذه الظاهرة المُستجدة، إن صح القول، لا تتسق ألبتة أيضاً مع ما يميّز العصر الذهبي لتأسيس الدولة الأميركية الحديثة الذي جاء على أيدي مؤسسين عُرف عنهم سعة الأفق والمعرفة والثقافة العامة، بل ان بعضهم كالرئيس الثالث توماس جيفرسون (ت 1826) والذي على يده تم تشريع إعلان الاستقلال، والمناداة بالحرية وحقوق الإنسان نادى أيضاً بأن تكون المعرفة ملكية عامة كحق مشاع للجميع: «المعرفة هي الملكية العامة للجنس البشري»، ولم يكن ذلك غريباً عليه، وقد عاش في عصر كان التعليم فيه حكراً على علية القوم من الأقلية المحظية الموسرة، بل وبفضل جهود بعض الآباء المؤسسين ونضالات الطبقة العاملة والفئات المهمشة تم إقرار مجانية التعليم. وبحسب البروفسور في التاريخ بجامعة هارفارد روبرت دارنتون فإن جيفرسون كان يُعلّق أيضاً آمالاً كبيرة على تفعيل دور المطبعة في نشر كتب المعرفة في مختلف أرجاء البلاد.

وينقل عن أحد الآباء المؤسسين ألا هو بنجامين فرانكلين قوله: «إن فن الطباعة ينشر ضوءاً عاماً جداً، لدرجة أن كل مغاليق نوافذ الاستبداد والكهانة التي تقاوم الضوء تنهار مقاومتها»، وعلى هذا المنوال ينقل أيضاً عن جون آدامز قوله «وانتم يا سادة الطباعة، فمهما يقول طواغيت الأرض عن أوراقكم، فلن يزيدكم ذلك إلا شرفاً لأن أفواه القوة هي مفتوحة دائماً للالتهام، وذراعهما ممدودة دائماً -إذا أمكن- لتدمير حرية الفكر والكلام والكتابة». ويحذّر مُحدثنا البروفسور دارنتون من خطورة عودة الاستبداد اليوم لتقييد حرية الوصول للمعرفة كما كان الحال قبل نحو قرنين.

وبناء على ماتقدم من حيثيات، فإن دارنتون طرح خلال عهد الرئيس السابق أوباما مشروعاً على درجة من الأهمية لإشاعة مجتمع المعرفة في جميع أرجاء الولايات المتحدة مستمداً من فكرة المشروع المعرفي العملاق العريق القائم المتمثل في «مكتبة الكونغرس»، فإذا كانت هذه المكتبة الأكبر في العالم معزولةً في مقر الكابيتول هول Capitol Hill وبعيدة عن متناول السواد الأعظم من الشعب بنخبه السياسية والثقافية والتعليمية والعلمية، فإن ثمه حلاً يتمثل فيما أطلق عليه «المكتبة الرقمية الوطنية» كتوأم لمكتبة الكونغرس الورقية بملايين كُتبها ومراجعها العالمية وبحيث يمكن تعميم خدمتها إلكترونياً بربطها بمختلف المكتبات العامة والمدارس الثانوية والكليات والجامعات، ومن ثمَ يمكن لأي شخص الولوج عبر الإنترنت للاستفادة من خدماتها. وهو ما يتوافق مع مبدأ جيفرسون في جعل المعرفة ملكية عامة. ويضيف دارنتون أنه رغم التكاليف المالية للمشروع والعقبات التقنية والقانونية والسياسية إلا أنه بالإمكان أن يحقق الأميركيون اليوم حلم جيفرسون لإشاعة المعرفة بكل روافدها تحت متناول أيدي المواطنين كافة بفضل «الانترنت». ثم يتساءل وكأنه يتكهن بما سيواجهه المشروع من عراقيل جمة: ولكن هل نملك الإرادة؟

والحال إن التساؤل الذي أبداه صاحب هذا المشروع أستاذ التاريخ دارنتون هو مربط الفرس في مستقبل إنطلاقة المشروع ذلك، بأنه على رغم ما قطعته الولايات المتحدة من شوط طويل في تجربتها الديمقراطية العريقة، إلا أن ثمة قوى ضغط اجتماعية واقتصادية ومن يمثلها داخل السلطة من أجهزة استخباراتية وعسكرية ليس من مصلحتها تعميم مجتمع المعرفة ببعده الفكري السياسي على كل أفراد الشعب الاميركي، وبخاصة طبقاته المتضررة من الوضع المزمن القائم، وهو ما يتناقض حقاً مع بلغته الاُمة الأميركية من قُمة في التفوق العلمي والتكنولوجي لاتضاهيها دولة فيها عالمياً، وما ذلك إلا خوفاً مما قد يتمخض عنه مستقبلا مجتمع معرفةٍ كهذا من تهديد فعلي على مصالح المتخوفين من تعميق سعة اُفق الشعب سياسياً، فجزء رئيسي من تمكن الطبقة السياسية احتكار السلطة إنما يقوم على تجهيل أكبر شرائح ممكنة من الشعب، عبر ما تقوم الآلة الاعلامية الجبّارة للرأسمالية الأميركية من تضليل دؤوب لها بشأن قضايا البلاد الداخلية المصيرية، وسياسات الدولة الخارجية والتي تهدد مصالح الشعب برمته ومصالح شعوب العالم على السواء.

ومالم تتوحد نضالات القوى السياسية والمدنية المستفيدة من إطلاق ذلك المشروع العلمي المعرفي العملاق الذي أطلقه دارنتون من أجل فرضه، فإن ولادة المشروع ليست بقريبة ودونها معارك نضالية مريرة متشعبة ومُعقدة قد تطول.



أضف تعليق