نافذة الأهل... نافذة مُفترَضة للمنصات
فنجان قهوة من يد أمّك، يتجاوز كل مقاهي الدنيا، بالعلامات الضاربة والمقتحمة لأسواق العالم. أمكنة لا علاقة لها بتكوينك وروحك ومزاجك أيضاً.
حديث دافئ مع من تحب... مع أهلك، وجهاً لوجه، يتجاوز في قيمته الحقيقية كل مواقع التواصل الاجتماعي، بموازناتها التي تتجاوز موازنات دول نفطية وغير نفطية.
عتاب مع من تحب، يظل أجمل بسنوات ضوئية من كل أيقونات الإعراب عن الندم والاعتذار وحتى البكاء، ذلك الذي علّب مشاعرنا في أيقونات نبعثها بضربة زر، وصرنا متآلفين معها، وربما نُبدي غضباً وقطيعة لو لم تكن معية كلام لاهث. صار العبث ملازماً للعبث. صارت الألفة مع الوحشة - واقعاً - ممارسة يومية.
نفتقد الكثير من العلاقات والذكريات التي شكَّلت نفسياتنا. نفتقد الدفء اليومي، بعلاقات منفتحة على الحياة، دالّة على الأثرة، نراكم من خلالها درس وجودنا الحقيقي، ونختبر من خلالها عواطفنا التي أصبحت باردة وافتراضية أيضاً!
بمعنى آخر، تتولّى التقنية اليوم، جانباً مما تبقَّى من عواطفنا. عواطفنا الباردة التي هي على عجلة من أمرها. لا وقت لديها كي ُتفصح عن تفاصيل ترتبط بقيمة ما. أقلّها عرضة للطعن والتجاهل: الحنين. الحنين في بعده الدافئ والحيوي في غياب يومي وبدم بارد، غياب لا يريد أن يثوب إلى رشْده!
يتم تسييرنا باللهو. بذبح الوقت ونحْره. بالكثير من العبث في نهاية المطاف. العبث الذي صار منهج حياة وعلاقات ومشاعر، وما تبقّى مما يدل علينا. كأنه زمن في التحوّلات التي نشهد، والانسياق الكلّي مع تلك التحوّلات، سواء دفعت بنا نحو المعلوم، أو زجَّت بنا في مدى لا نهائي من المجهول. يُراد تحويلنا إلى أشياء؛ تماماً كالمنصات التي توحّدْنا معها، وصارت أكثر من كونها جزءاً من عالمنا المُوازي: العالم الواقعي. صارت هي العالم الواقعي بكل التفاصيل التي نعرفها مع فارق أننا صرنا متماهين مع الغياب الذي نُوسّع رقعته وآثاره يوماً بعد يوم؛ بل لحظة بعد لحظة.
ذلك التوحُّد نتج عنه نأي وهجْر له أدوات نفيه وإلغائه وفرض أولويات نبتدعها، ويسهم ذلك الواقع الذي لم يعد افتراضياً في الاقتناع بذلك النفي والإلغاء وفرض الأولويات المُبتدعة.
نسهم بواقع تلك التفاصيل بركن الذين كانوا سبباً في وجودنا في هذا العالم، على جادّة ورصيف وزاوية النكران والإهمال.
لا شيء من كل ذلك يومئ إلى التحريض على المنصّات وهجْرها؛ وفي الوقت نفسه، لم تضرب تلك المنصات على يد أي منا، ولم تصادر خياره، كي نضع الذين لا مقاييس يمكن أن نزنهم بها، على جادّة وأرصفة النكران. الذين شكَّلوا جانباً من المضيء والجميل مما يمكن للعالم أن يتذكّرنا به.
تلك المنصات لم تقم كي تعمّق علاقاتنا في المكان... البيئة الواحدة. ترجمة تحويل العالم إلى قرية صغيرة لا علاقة له بكل الأذى للأواصر، وفرْي اللحم، ونكران الأرحام. فرْيِه بالتعامل مع الأحياء من أولئك وكأنهم في حضرة الغياب النهائي، بوهم الحضور الذي تعِدنا به بعض تلك المنصات التي نحفظ تفاصيلها أكثر من حفظ تفاصيل أطفالنا.
كل ما نتج وينتج بعد قيام تلك المنصات يكشف عن هشاشة أرواحنا وقابليات لا حصر لها لنكران مفتوح على ما هو أكبر منه، ربما.
ليس أكثر وجعاً على الآخرين من غياب مع سَبْق الإصرار والترصّد. ليس آلمَ على الآخرين من نكران لن يعود يوماً إلى رُشْده. ليس أصعب من أن تحل الأشياء محل الذين كنّا لولاهم لأصبحنا اليوم أقل من الأشياء بمراحل، ربما. ليس أكبر فداحة مثل خُسران اختياري في غياب هو على تواؤم مع تغييب الذين هم من المفترض أن يكونوا في لُبّ وعصَب وعضلة الذاكرة والحضور.
لا نوافذ يُمكن لها أن تُعيد صوغ الحياة مثل نافذة الأهل والأصدقاء والأحبة. نوافذ المنصات مجسّات ومجاهر ومَقَارِب لاكتشاف العُقَد والأمراض والتحريض الرخيص الذي يتمترس وراء البطش والمُصادرة، وما تم تقريره من خسف الحياة، وكل ما يشوّه قيمتها منذ صرختنا الأولى حتى صمتنا الأخير؛ أو ما يُفترض أن يكون أخيراً!