«مكتبة الكونغرس»... وتدني المستوى الثقافي للرؤساء
في الثاني عشر من الشهر الجاري احتفل العالم بيوم المكتبات العامة الجوّالة، التي انطلقت فكرتها في القرن 19 بعربات تجرها الخيول تجوب المناطق المتباعدة في أوروبا، وبعد أيام قليلة تحتفل البشرية باليوم العالمي للكتاب، وتزامناً مع هذه الفعالية الحضارية يُفتتح بعد يوم غدٍ (الخميس) العرس السنوي لمعرض الكتب المستعملة الذي تنظمه «الوسط»، ونغتنم هذه المناسبة لنتناول في هذا المقال والمقالين القادمين موضوعات تتعلق بالكتب والمكتبات.
«المكتبة الأكبر، والأكثر كلفةً، وأماناً في العالم»... هذا هو الشعار الذي نُقش على قبة «مكتبة الكونغرس» أو المبنى الرئيسي لها المسمى «مبنى توماس جيفرسون»، الرئيس الثالث للولايات المتحدة، ويُعد واحداً من أهم معالم البلاد التي يحق للولايات المتحدة أن تفتخر بها حضارياً، وبحسب موسوعة «الويكيبيديا» الالكترونية تبلغ مساحته 39 هكتاراً، أما طول رفوف المكتبة فتصل إلى 856 كيلومتراً، وتضم أكثر من 140 مليون مادة متنوعة، ونحو 30 مليون كتاب ومواد مطبوعة بـ 460 لغة، وأكثر من 58 مليون وثيقة، كما تضم المكتبة أول نسخة مترجمة للمصحف الشريف كان اشتراها الرئيس جيفرسون، وبذلك تُعد مكتبة الكونغرس هي الأكبر في العالم في المواد والمراجع القانونية، والخرائط والأفلام والمعزوفات الموسيقية.
ويعود للرئيس جيفرسون الفضل أيضاً في تأسيسها، إذ كان معروفاً بتنوع هواياته ومواهبه الثقافية والدبلوماسية والقانونية، وقد أصدر قانوناً يُحدد مهام المكتبة، والأدوار المناط بها تأديتها. ومع أن المكتبة منذ تأسيسها العام 1800 تعرضت إلى سلسلة من الحرائق، إلا أن كل حريق كان حافزاً لإدخال المزيد من التطوير على مبانيها ومقتنياتها، ومن أشهر التطويرات بناء الجناح الكبير المُضاد للحريق، والذي اُفتتح العام 1853 وأطلقت عليه الصحافة الأميركية «الجناح الأكبر في كل مكتبات العالم»، وفي العام 1938 اُفتتح جناح جديد على الطراز المعماري الكلاسيكي، وقد خُصص للكتب النادرة، وفي سياق التوسعات والتطويرات المتعاقبة اُفتتح أيضا جناح جديد للمكتبة سُمي باسم الرئيس الأميركي الثاني جون آدامز، وفي العام 1981 اُفتتح مبنى ثالث للمكتبة سُمي باسم الرئيس الأميركي الرابع جيمس ماديسون.
لكن من المفارقات الصارخة أن الدولة التي أُقيمت على أرضها أضخم وأرقى مكتبة في العالم، تحكمها طبقة سياسية بالتناوب «انتخابياً» بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، هي أبعد ما تتجسد في نماذجها المُنتخبة للرئاسة الإشعاعات الثقافية الإنسانية الحضارية المفترض أن ترمز لها تلك المكتبة، سواء بالنظر إلى ممارساتها السياسية على أراضي وطنها، أم على أرجاء بقاع كثيرة من المعمورة الخاضعة لهيمنة الولايات المتحدة أو نفوذها، استناداً لجبروت قوتها العسكرية الغاشمة. أكثر من ذلك فكم من مكتبات مهمة على تواضعها مقارنة بمكتبة الكونغرس وتحتوي على مخطوطات وكتب ووثائق نادرة لا تُقدر بثمن هي ملك الحضارة البشرية بأسرها وليس فقط البلاد تعرضت للتدمير الكامل سواءً من جراء الحملات العسكرية العدوانية المباشرة للولايات المتحدة، أو من جراء ما تسببت به سياساتها تجاه تلك البلدان من اضطرابات وحروب داخلية ضالعة هي فيها، وليس العراق وسورية سوى أسطع مثالين في وقتنا الحاضر.
ومن المفارقات الساخرة أيضاً أن «مكتبة الكونغرس» التي اُنشئت أساساً لخدمة أعضاء الكونغرس، الذي يترشح بعضهم للانتخابات الرئاسية، غالباً ما نجدهم على درجة من الضحالة في الثقافة السياسية والتاريخية عن دول العالم، وهذه الظاهرة برزت بشكل لافت ومتفاوت منذ انتهاء الحرب الباردة، ففي الوقت الذي بلغت الولايات العظمى شأواً عظيماً في التطور التكنولوجي والصناعي والمعلوماتي، بدا الرؤساء الجُدد من الضحالة وتدني مستواهم في المعرفة السياسية، ولعل الرئيس الأسبق بوش الابن، والرئيس الحالي دونالد ترامب أبرز نموذجين يعبران عن تلك الظاهرة، وإن تميز الأخير عن الأول بالغطرسة المُفرطة، وإذا ما اجتمعت الغطرسة مع الجهل فقل على الدُنيا السلام!