مصر وآفاق القضاء على الإرهاب
عكفتُ خلال الأيام القليلة الماضية على متابعة كثرة من التعليقات والتحليلات الصحافية والحوارات الفضائية التي تناولت المذبحتين الإرهابيتين اللتين ارتكبهما «داعش» الأحد الماضي بحق أحبابنا الأقباط أثناء صلوات أحد أعيادهم في كنيستي «المرقسية» بالإسكندرية و «مار جرجس» بطنطا وخلفتا معاً ما يقرب من 50 قتيلاً ونحو 130 جريحاً، ومن بين شهداء كنيسة الإسكندرية سبعة من رجال وضباط الأمن المسلمين بينهم شرطيتان في عمر الزهور نشرت صورتيهما «اليوم السابع» وأحدهم (عماد الركايبي) افتدى روحه لصد الإرهابي الانتحاري ُمرتكب الجريمة وخفّف بتضحيته الجسورة من حجم عدد الضحايا.
ثمة ثلاث ملاحظات لافتة للنظر تؤخذ في تقديري على تلك التحليلات الإعلامية:
الأولى: محاولة تعليل ارتكاب «داعش» الجريمتين بموقف الأقباط المؤيد لعزل الرئيس السابق «الإخواني» محمد مُرسي وتأييدهم للرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، ومن بين من أخذوا بهذا التعليل ،على سبيل المثال لا الحصر، تقارير وحوارات الـ B B C وإذاعة مونت كارلو، ومقال في الحياة لبشير عبدالفتاح رئيس فصلية الديمقراطية، وعدد من الصحف والقنوات المصرية السياسية، فكأنما «داعش» يبحث في أعماله الانتحارية الإرهابية التي تطاول مئات المدنيين الأبرياء في المنطقة ومناطق عديدة من العالم عن أسباب سياسية آنية يبرر بها عملياته، في حين هو لايستهدف غالباً في جُل جرائمه الإرهابية بحق المدنيين الأبرياء إلا فئتين على الهوية الطائفية هما تحديداً المسيحيون وأتباع أحد المذاهب الإسلامية، علماً أن نسبة ضحايا الفئة الثانية وبخاصة في العراق هي الأعلى من مجمل ضحايا العالم في التفجيرات الانتحارية منذ 10 سنوات ونيف ولا تلقى إلا النزر اليسير من الاهتمام عربياً وعالمياً.
الثانية: إن معظم تلك التحليلات والحوارات تربط أتوماتيكياً تفجيري الإسكندرية وطنطا بأصابع لجماعة «الإخوان المسلمين»، ورغم اختلافنا الجوهري والشديد مع فكر ونهج هذه الجماعة وما ارتكبته من أعمال عنف وتخريب بل وحتى جرائم على خلفية فض اعتصامهم الابتزازي في «رابعة العدوية» و «تمثال النهضة» إثر عزل مُرسي يونيو/ حزيران 2013، فإن ثمة خشية حقيقية بأن يتكرس ويسود هذا النمط من التحليل السطحي المبسّط للأحداث ليتحول إلى أسطوانة مُبتذلة ممجوجة بتعليق كل مشاكل ومصائب «المحروسة» الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمتراكمة منذ نحو أربعة عقود، على شمّاعة «الإخوان المسلمين» مما يُذّكرنا أيضاً بمشجب تعليق ذات المشاكل على «الشيوعية» وأصابع موسكو العفريتية الخفية إبان الحرب الباردة سواء في مصر نفسها أم في عدد من الدول العربية وهذا ما يتنافى مع أبسط مقتضيات الموضوعية.
الثالثة: إن أكثر تلك التحليلات تنحو أيضاً إلى الربط الميكانيكي بين تنظيم «داعش» في سياساته والتنظيمات الدينية المصرية المتطرفة ذات النشأة الخالصة في التربة المصرية وبضمنها تلك التي برزت منذ عهد الرئيس الأسبق أنور السادات لكنها خرجت من عباءة جماعة الإخوان المسلمين التاريخية (تأسست 1928) وهذا باعتقادي ربط يُجانب الصواب، فالفكر الداعشي رغم تمكنه من حصد أعداد من المصريين إلى صفوفه إلا أنه يبقى نبتةً شيطانية «صحراوية» نمت وترعرعت في بيئة عربية مختلفة غريبة على وادي النيل وغير قابلة للحياة طويلاً في تربته وإن كان فكره راهناً يُعد أخطر الجراثيم الإرهابية الفتّاكة التي تمكنت من اختراق حدود أرض الكنانة ووجدت لها «شيئاً» من البيئة الحاضنة في بعض البرك الآسنة المزمنة الأشبه بالجزر الصغيرة المعزولة داخل مصر لعل أخطرها الآن في سيناء.
ولقد نجح برنامج «نقاش» في فرانس 24 في تنظيم حوار قيّم أداره مُعده بكفاءة واستضاف فيه ثلاثة من كبار المفكرين والكتّاب السياسيين المصريين هم حازم الشافعي (رئيس معهد حضارات البحر المتوسط والشرق الأوسط) ووليم ويصا وأحمد يوسف حيث تميزت مداخلاتهم بقدر معقول من الموضوعية في تحليل أبعاد الجريمتين والجذور التاريخية للتنظيمات الإرهابية في مصر وأسباب استفحالها وتشابك تكتيكاتها الراهنة مع التنظيمات الإرهابية الأشد فتكاً وخطورة خارج مصر كداعش. ومن جهته لم يقلل الكاتب ويصا من التدابير الأمنية إلا أنه اعتبر المنظومة الأمنية متخلفة تفتقد للتدابير الاحترازية وأن الإرهاب في مصر ليس حديث الولادة بل يضرب بجذوره التاريخية منذ تدشين السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي المنفلت وتقريبه الجماعات الإسلامية إليه لضرب التيارين الناصري واليساري، أما حازم الشافعي فقد أبدى - رغم انتمائه للإسلام - اعتزازه الشديد بالمكوّن القُبطي الأصيل باعتبار أصالته كما يقول يجب أن تكون مصدراً لفخر الشعب المصري بكل فئاته بحكم جذوره الاجتماعية والحضارية الضاربة تاريخياً في أعماق التربة المصرية، وأوضح بأنه لم يكن يعرف حتى هوية بعض أصدقائه الدينية إلا بعد أن يتوفاهم الله، فقد عاش كاسكندراني في حي مختلط من أتباع ديانات متعددة، لكنه - على حد تعبيره - استشعر شفير الهاوية المقبلة عليه بلاده منذ وقت مبكر مطلع سبعينيات القرن الماضي قبل هجرته للخارج إثر بروز الجماعات الإسلامية المتطرفة لكن المتحدثين أبدوا مخاوفهم من أن يُستغل قانون الطوارئ المزمع فرضه للتضييق على حرية الصحافة والحريات العامة.
والحال ودون التقليل من أهمية العلاج الأمني فإنه في حد ذاته ليس كافياً لاسيما وقد جُرب طوال 31 عاماً من حكم مبارك بدون أن ينجح في تجفيف المستنقعات الاجتماعية التي تنمو وتتكاثر فيها بؤر الجراثيم الإرهابية مما يتطلب الشروع فوراً وبكل جدية في حزمة الإصلاحات المتمثلة في تعميق الإصلاح السياسي الدستوري الديمقراطي بالتوازي مع تجذير الإصلاحات الاقتصادية والتعليمية والثقافية والدينية وهي الإصلاحات المُعلقة التي طالما نادت بها كوكبة مصرية عريضة من خيرة المفكرين والمثقفين والكتّاب المصريين على مدى أربعة عقود ونيّف وعُقدت من أجلها مئات الندوات والمحاضرات والحوارات التلفزيونية والحلقات النقاشية دع عنك مئات الكُتب والدراسات التي صدرت حتى تفجر ثورة يناير 2011 التي اُجهضت أحلامها وفشلت للأسف، لأسباب موضوعية وذاتية، فشلاً ذريعاً في انتزاعها وقطف ثمارها.