ما وراء ديمقراطية الهند
الحديث عن الهند في الخليج لا يخلو للأسف من العنصرية والتقليل من شأن الهنود وبلدهم، رغم أثر هذا البلد الكبير على حياتنا وثقافتنا التي تأثرت ودخلت في تراث شعوب الخليج كجزء لا يمكن إنكاره إلا في بعض الأدبيات التي تريد أن تلغي حقيقة هذا التأثير، الذي قدم عبر التجارة بالدرجة الأولى، محوّلا مدنا وموانئ في المنطقة إلى مجتمعات تعددية، مثل مجتمع المنامة في البحرين على سبيل المثال.
وحتى السينما البريطانية ذهبت في فيلم «بيت نائب الملك» (من إنتاج بي بي سي 2016-2017) في استعراض فترة انتقالية هامة لهذا البلد المؤثر، ليس ثقافيا واقتصاديا ولكن حتى سياسيا، وتقسيمه رغم الجدل والخوف من اضعافه إلى بلدان مثل باكستان وجدت بحجة حماية ملة المسلمين ضد الهندوس. ولكنها واقعا خلقت لتحمي مصالح بريطانيا في الخليج، وتصبح مانعا صلبا أمام زحف الاتحاد السوفيتي آنذاك إلى نفط هذه الدول.
لقد نجح الهنود في بناء ديمقراطية بلادهم في ظروف شديدة الصعوبة، فهذا واضح لكل من يعرف مدى عمق المشكلات الاجتماعية والثقافية في مجتمع كان يرزح تحت وطأة التخلف والفقر المدقع، وصعوبة التواصل مع أقاليمه، إلى حين حصوله على الاستقلال في العام 1947. ولذلك فقد حفلت النظم السياسية والحكومات المقارنة في خمسينيات القرن الماضي بتوقعات غير متفائلة بشأن مستقبل الديمقراطية في بلد مثل الهند.
النموذج الهندي ليس فريدًا من نوعه فقط بسبب الحجم الهائل من الناخبين الذي يصل عددهم إلى ما يقرب 750 مليونًا. ومجموع الناخبين في الهند يساوي عددهم في جميع الديمقراطيات الراسخة والانتقالية في العالم، ويبلغ متوسط الإقبال على الاقتراع 50 في المئة ويزيد؛ فالهنود يأخذون الديمقراطية على محمل الجد في مقارنة مع شعوب أخرى.
المراقبون في الشأن الهندي اعتقدوا بأن هذه الديمقراطية قد لا يتبقى منها شيء بعد رحيل الزعيم الهندي جواهر لال نهرو، الذي خالفهم في إصراره على أن بلاده مؤهلة لنظام سياسي أكثر ديمقراطية مما كانوا يتصورون. فإلى جانب المقومات التي كانت موجودة في التقاليد المحلية، فقد ساهم الاستعمار البريطاني في إقامة نظام إداري متطور، نجح في تدريب عشرات الآلاف من الهنود ممن اكتسبوا مهارات صبّت لصالح مصلحة التطور الديمقراطي في بلادهم.
مع ذلك لم يكن بناء الديمقراطية الهندية سهلاً بأي حال، فعندما أجريت الانتخابات البرلمانية الأولى في العام 1951 وبداية العام 1952 بنجاح، بدا الأمر كما لو أنه يشبه معجزة، إذ واجهت اللجنة القومية للانتخابات صعوبات هائلة في توفير موظفين مؤهلين في أكثر من مئتي ألف مركز انتخابي، وفي إيجاد نظام فعال للرموز الانتخابية في ظل نسبة أمية تجاوزت 80 في المئة من الناخبين، مع احترام التعددية والاختلافات اللغوية والدينية التي تتكون منها الهند.
إن قوة الهند تكمن اليوم ليس في تعدديتها الثقافية والسياسية، بل في أنها أصبحت واحدة من أنجح الدول الديمقراطية والمستقلة في العصر الحديث، بعد أن كانت في الماضي تتكون من مئات الممالك والإقطاعيات المتفرقة، ولأن القرون التي سبقت الاستقلال كانت تتميز بانعدام العدالة الاجتماعية والاقتصادية؛ فقد ركزت على تحقيق العدالة وإصدار التشريعات الخاصة بها. ومن تلك التشريعات إصلاح الأراضي وإعادة توزيعها على أبناء الشعب الهندي، بينما ملاك الأراضي تم تعويضهم ضمن خطة وطنية آنذاك في حركة خيرية قادها ملاك الأراضي أنفسهم بإعادة الأراضي إلى الناس بحسب معادلات اتفق عليها سياسيا.
تواصل ديمقراطية الهند التطور على أكثر من مستوى، من النضال ضد الفساد الذي يعد مشكلة كبيرة في السنوات الأخيرة وواحدًا من عيوب النظام التي حفزت المجتمع على معالجة هذه المشكلة. ليس هناك من شك في أن النزاعات المستعصية في ولاية جامو وكشمير أيضا تعقّد وضع ديمقراطية الهند وحالة التوازن المطلوبة بين الأمن-النظام والمساواة-الحرية.
إلا ان هذا لا يمنع من القول بأنه إذا كان الهنود استطاعوا أن يحققوا هيبة لبلدهم من خلال قبولهم بالتنوع فيما بينهم، وتصحيح أوضاعهم في تفعيل ديمقراطية صحيحة يضرب بها المثل في دول العالم، فإن ذلك هو ما يجب أن تتطلع إليه شعوب المنطقة العربية. لهذه الأسباب توفر ديمقراطية الهند الكثير من غذاء الفكر للشعوب العربية وتحديدا الخليج، التي يسمح تاريخها الطويل من التواصل مع شبه القارة الهندية بالتبادل الثقافي ونقل الأفكار بين الجانبين، على أساس من المساواة والعدل بدلا من العنصرية ونشر ثقافة الكراهية.