الأفكار كثيرة والتنفيذ قليل... والكوتة «مرفوضة» (2)
تحدّثنا في المقال السابق عن كيفية تحويل الأفكار والاقتراحات والرؤى الكثيرة التي نسمع عنها إلى مشاريع فعلية ملموسة على أرض الواقع، وكيف أن المسألة باتت في غاية الصعوبة بسبب نقص الكفاءات التنفيذية مقابل الكفاءات «التفكيرية»، بمعنى أن الأفكار كثيرة، ولكن من يبذل الجهد والعمل وينتج فعلياً قليلون، حتى بات من الصعوبة حقاً أن تفكّر في مشروع، وتراه واقعاً على الأرض. فإلى جانب قلة الكفاءة القادرة على المساعدة والإنتاج، ستجد أيضاً عديمي الكفاءة من كل شبر يخرجون لك مشكلة، ومن كل مكتب تخرج عقبة روتينية، ومن كل مسئول لا تحصل على ما يشفي صدرك ويحسم أمرك، أما الموظفون فحدّث ولا حرج!
وأرجعنا السبب إلى أمرين رئيسيين، «المحسوبية» التي باتت «آفة قاتلة» في الجهاز الوظيفي ليس للدولة فقط ولكن للقطاع الخاص أيضاً، و»العنصرية الطائفية» التي تجعل الاختيار مبنياً على «ابن القبيلة أو الطائفة أو الجنس»، وهذا كله يضر بالوطن وبالاقتصاد الوطني، لأن عنصر الكفاءة قد مُحي محواً من بين عناصر الاختيار، وهو العنصر الأهم بالطبع إن أردنا إصلاحاً.
اليوم نتحدّث عن أسباب أخرى من أسباب تأخّر الإنتاجية، وقلّة تنفيذ الأفكار وبلورتها إلى مشروعات واقعية، وهي الدعوة التي يطالب بها البعض من حين إلى آخر لتخصيص «كوتا» مرةً للنساء، ومرةً لفئة تجارية بعينها أو مهنة بذاتها، في مجلس إدارة هيئة أو مؤسسة أو نقابة مثلاً، وغير ذلك من دعاوى لا تنتهي بتخصيص «كوتة» لفئة ما في مكان ما.
ولننظر إلى وضع المرأة أو السيدات في البحرين، هل هن يحتجن إلى «كوتا»؟ المرأة الوزيرة في الحكومة، النائبة في البرلمان، القاضية، وكيلة النائب العام، عضو مجلس إدارة الغرفة، عضو المجالس البلدية، عضو مجلس إدارة مجلس التنمية الاقتصادية والبنوك والشركات، والرئيس التنفيذي لأكبر الشركات أحياناً، هل تحتاج إلى «كوتا» لتثبت أنها على كفاءة للحصول على هذا المنصب أو ذاك؟
لا أعتقد ذلك بالمرة، فالمرأة التي وصلت إلى جميع هذه المناصب بالكد والعمل والجدارة والكفاءة، قادرةٌ على أن تصل إلى أي منصب آخر بنفس السبل وبنفس المنهج، فكرة «الكوتا» في حد ذاتها أراها «سُبّة» في حق المرأة وتقليلاً من شأنها.
النقطة الأخرى هي حرمان المجتمع أو الاقتصاد الوطني من شخص آخر أكثر كفاءة لهذا المنصب أو ذاك، عندما تخصص «كوتا» للمرأة، وبالطبع الأمر ليس مقتصراً على المرأة فقط، فهناك المطالب نفسها لفئات أخرى مثل ذوي الاحتياجات الخاصة أو صغار السن أو كبار السن.
فكرة أخرى مرتبطة بفكرة «الكوتا» وهي فكرة «الموائمة» بين فئات المجتمع المختلفة ومكوّناته على أسس عدة، وهو أمر في منتهى الخطورة لأن ظاهره عدالة وإنصاف وتوازن، وفي باطنه ظلم وإجحاف وتناقض، لماذا؟
لنفس الفكرة التي تحدثنا عنها هنا مراراً، مجلس إدارة جهة ما، فتجد هكذا جزء للسنة، وهكذا جزء للشيعة، وهكذا جزء للمرأة، أو هكذا جزء للكبار وهكذا جزء للشباب!
لا يوجد مانع عندي أبداً أن يكون المجلس بأكمله من السنة أو الشيعة، أو السيدات أو كبار السن أو الشباب، المعيار في جميع الأحوال يجب أن يكون الكفاءة والقدرة على العطاء والعمل والمنح لصالح المكان ولصالح البلد ولصالح الاقتصاد الوطني. فلماذا تصر بعض الهيئات أو المؤسسات على «المحاصصة» و»التخصيص»؟ نحن لسنا في لبنان أو العراق، يجب أن يتم نبذ هذه الفكرة من جذورها لأنها تؤسّس لتقسيم المجتمع ناهيك عن الخسارة الاقتصادية التي سبق شرحها بشأن فقدان الكفاءات وعدم منحها الفرصة لأن الاختيار مبني على أسس مختلفة.
الكوتا والموائمة فكرتان يجب التخلص منهما كلياً، لأنهما في الغالب الأعم يأتون بأشخاص غير مؤهلين، وغير أكفاء لمناصب بعينها، لمجرد انتمائهم لفئة بعينها، سواءً كانوا سيدات أو ذوي احتياجات خاصة أو شباب أو... أو ...
في النهاية الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها وهيئاتها، الحكومي منها وما يمثل القطاع الخاص، في كل مجال ستفقد شخصاً كفؤاً مؤهلاً لهذا المكان حصل على مكانه شخص آخر أقل كفاءةً أو ربما معدوم الكفاءة بشكل تام، لأنه جاء بناءً على فكرة «الكوتا» و»الموائمة»، أو كما تطرقنا في المقال السابق، لأسباب تتعلق بالعنصرية الطائفية أو المحسوبية أو المصلحة المتبادلة بين ذوي النفوذ!
وفي النهاية أيضاً ستخسر الدولة - وهذا مثلما ينطبق على الاقتصاد ينطبق على السياسة والمجتمع والخدمات أيضاً - وسنجد الكثير من الأفكار التي تطرح على الساحة ولكنك لم ولن تجد من ينفذها على أرض الواقع إلا قليلاً وقليلاً جداً!