بعيون الأمهات
من أصعب الأوقات التي مررت بها، وداع ابني البكر خالد عند باب السكن الجامعي في استراليا، وهو لم يتم الثامنة عشرة بعد. لا أعرف كيف مرّ الوقت بعدها، وكيف أمضيت الساعة التي كان يستغرقها الطريق إلى المطار، وكيف مرّت الساعات الطويلة التي تفصلني عنه براً وبحراً وجواً والتي كلما امتدت، بعدت المسافة وازداد الضغط على قلبي.
مشاعر كثيرة تصارعت في داخلي بين خوف وقلق وندم شديد على تشجيعي له أن يختار الدراسة الجامعية في الخارج، لتكون له تجربته في العيش باستقلالية. كان قلبي يعيش تجربته الأولى في الانفصال عن ذلك المخلوق الذي منذ أن جاء إلى الدنيا وأنا أعتبر نفسي مسئولة عن كل ما له صلة به، وأعتقد أنه لن يكون بأمان إلا إذا تواجد على مرمى النظر والصوت مني.
وقتها سألت والدتي التي كنت دائماً أراها قوية ومتماسكة ومازحة في الأغلب، حين مغادرتي وأنا في عمر ابني، ففاجأتني أن أجابت بـ «كان قلبي ينخلع في كل مرةٍ تغادرين». كان هذا التعبير هو الأقرب لشعوري عندما تحرّكت بي السيارة، وسرعان ما غاب ابني عن النظر، لكنه لم يصلني من والدتي، فقد كنت سعيدةً بخطوتي الأولى للاستقلال الذي كنا نتوق له وقتها. خجلت من أنانية المراهقة الطاغية التي ربما حجبت حينها عني كل ما من شأنه أن يكدّر تلك اللحظات الفاصلة من حياتي، ودون اكتراثٍ لما خلّفه ذهابي.
وُضعت في التجربة مرتين، وفي كل مرة أطمئن نفسي أن الأمر سيكون أسهل؛ ولكن أكتشف أن لكلٍ مكان خاص. وفي كل مرة كان «ينخلع قلبي». ويجبن قلبي عن التفكير في لحظة وداع «آخر العنقود» عندما يأتي ذلك اليوم الذي تضع خطوتها الأولى خارج البيت.
قالت والدتي بابتسامة من خَبُرت انفصال ستة أبناء وبنات آخرين لمسارات مختلفة في حياتهم: «لن يصل شعور الأمهات والآباء للأبناء حتى يصبحوا أنفسهم آمهات وآباء». صدقت والدتي، ففي كل تجربة أمرّ بها تتراءى لي والدتي، واستعيد في عيونها ذلك الإحساس بالسعادة والتعاسة والفرح والألم الذي كان يتناوب عليها، تبعاً للحالات الشعورية التي نمر بها في نجاحاتنا وفي خيباتنا، لم تتغير مذ وعينا وحتى الآن بعد أن غادرنا بيتنا الكبير وأصبح لكل منا بيته وعائلته.
يتسابق الأبناء للتعبير عن حبهم وامتنانهم لمن كنّ لهم أمهات سواء بيولوجياً، أو أولئك اللاتي قمن بالدور لأي سبب كان، وتُعبأ وسائل الاتصال بالرسائل المليئة بالكلمات والمعاني، وينشغل الفنانون وتدور الآلات لإنتاج ما يليق بالأم في يومها، لكن هل تنتظر الأم هذا اليوم الذي تسابقت الأمم في الفوز بتحديده، ليكون يومها الذي يحتفى بها فيه؟ أم أنها فازت مقدّماً بمكافأتها عندما وضع الله في قلبها منذ لحظة الولادة تلك المشاعر السحرية التي تتحوّل معها المسئوليات العظيمة إلى تكريم، فيسعدها أداؤها وإنجازها على أحسن وجه دون انتظار شكرٍ أو امتنان.
منذ لحظة الولادة الأولى يُفصل الجنين عن مشيمة أمه بُقطع الحبل السرّي ليظل، عمرها كله، معلقاً في قلبها، يتقدّمها في كل شيء، ويتبعه القلب أينما ذهب، فلا يغمض لها جفن حتى تطمئن على مكانه في القلب سالماً لا ينقصه شيء.
عندما نحتفي بأمهاتنا فإننا نحتفي بسعادتنا واطمئناننا لوجود أمهاتنا، ونهنيء أنفسنا لفوزنا، منذ أن جئنا إلى الدنيا، بحضن أبديّ الدفء وقلب لن يتخلّى عنا، وعيون سترانا الأجمل كيف ما كنّا. يقول الشاعر محمود درويش: «لن ينجح أحدٌ في أن يراك بعين أمك وإن تاهت بك الأرض، فعيون الأمهات أوطان لا تخون».