الأفكار كثيرة والتنفيذ قليل... والمحسوبية «حاضرة» (1)
من الأمور التي تشغل حيزاً لا بأس به من تفكيري في الفترة الراهنة «كيفية تحويل الأفكار والاقتراحات والرؤى الكثيرة التي نسمع عنها إلى مشاريع فعلية على أرض الواقع». لا أخفي عليكم سراً أبذل جهداً كبيراً في تنفيذ بعض الأفكار، ربما أكثر بكثير من التفكير في «الفكرة ذاتها» وبلورتها بشكل متكامل، بات من الصعوبة حقاً أن تفكر في مشروع وتراه واقعاً على الأرض، من كل شبر تخرج مشكلة ومن كل مكتب تخرج عقبة روتينية، ومن كل مسئول لا تحصل على ما يشفي صدرك ويحسم أمرك، أما الموظفون فحدث ولا حرج!
في أيامنا العادية نسمع ونقرأ عن تصريحات للمسئولين، وهي في الغالب تحتوي وعوداً كثيرة، وأفكاراً جيدة جداً، وربما ممتازة لا مثيل لها، ومقترحات هائلة بمشروعات أو برامج أو غير ذلك، ولكن نصبر أسبوعاً، شهراً، عاماً، عامين، الناس نسيت الفكرة أو المقترح أو التصريح، بل ربما نسيها من صرّح بها أيضاً، وصرّح بعدها عشرات التصريحات بعشرات الأفكار التي لم ينفذ منها شيء.
في الواقع إذا قامت أي جهة بحثية أو صحافية بعمل دراسة مقارنة بين تصريحات المسئولين، ولنأخذ رؤساء الهيئات والإدارات واللجان مثلاً كنموذج «باعتبارهم أهم عناصر الأجهزة التنفيذية في مملكة البحرين»، ويعقدوا لنا مقارنةً بين تصريحاتهم خلال السنوات الخمس الأخيرة، وكم نُفّذ منها على أرض الواقع فعلياً؟ أعتقد أن النتائج ستكون مبهرة!
كم تعتقدون نسبة ما نُفّذ من أفكار قيلت ونشرت في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة؟ أنا أعتقد أنها لو تجاوزت 10 في المئة في المتوسط الإجمالي سيكون أمراً ممتازاً، لكن الحقيقة أنه مثلما يعمل البعض وينفذ ولو نصف الأفكار التي يقولها «وهو أمر مبهر في هذا الزمن»، البعض الآخر سيحصل على «صفر كبير» باللون الأحمر مثلما كان يحصل عليه تماماً في الصف الابتدائي!
لكن لماذا يصل هؤلاء الفشلة إلى بعض المناصب التنفيذية العليا في الوزارات والهيئات الحكومية؟ أعتقد أن هناك أسباباً كثيرة، لكن لعلي أركز على سببين رئيسيين: «المحسوبية» و»العنصرية الطائفية».
المحسوبية باتت «آفة قاتلة» في الجهاز الوظيفي ليس للدولة فقط ولكن للقطاع الخاص أيضاً، هناك مؤسسات كبيرة في البحرين يأتي المدير من جنسية آسيوية معينة مثلاً، فتنقلب المؤسسة بالكامل في غضون عامين على الأكثر إلى جحافل من نفس الجنسية، وربما من ثلاث أو أربع عائلات في قرية معينة بتلك الدولة! هنا الاختيار ليس على معيار الكفاءة الذي أوصل هذا المدير الآسيوي لمكانته على رغم أنه ليس من أهل البلد، ولكن على معيار «الثقة» و»المجاملة»، فالمدير الذي وصل إلى المكانة هذه بكفاءته، لم يستخدم للأسف الشديد نفس الأسلوب لمنح الفرصة لآخرين من جنسيات مختلفة لخدمة الشركة أو المؤسسة.
كمثل القاضي الذي يريد أن يقتصر مقاعد القضاة على أولاده وأولاد زملائه، والدبلوماسي الذي يريد أن يقتصر مناصب الدبلوماسية على أبنائه وأبناء زملائه، ويحرمون من هم أحقّ بها منهم، وكم من مرة سمعنا في بعض البلدان العربية الشقيقة عن حالات انتحار للأسف كان وراءها مثل هذه التصرفات النكراء.
في الفن والرياضة تحدث أمور مشابهة أيضاً، ومحاولات لتوريث المهن، قائمة بحكم اعتياد الأبناء على رؤية آبائهم، لكن الموهبة تكون فارقاً وفاصلاً في هذه الوظائف، فهناك مواهب حقيقية بين الأبناء تستحق فتكمل مشوار آبائها بنجاح وقوة، وهناك أبناء لديهم الرغبة دون الموهبة فيتعثرون كثيراً ولا يكملون الطريق.
في الجهاز الحكومي للدولة يتم في أحيان كثيرة الاختيار بشكل مبني على «عنصرية داخلية» وطائفية أحياناً، هذا كذا يأتي بكذا، وهذا ينتمي لكذا يأتي بكذا، وغيرها من «محسوبيات» باتت بغيضة وكريهة ولا أحد يطيقها إلا المستفيدون منها بالطبع.
وبالطبع الممارسة تتم بأعلى درجة من الاحترافية؛ لأن اللجان وهيئات الاختيار تُشكّل على «المزاج»، وفي النهاية الكلمة للمسئول الكبير، ومن تحته من موظفين يسيرون بشعار «سمعاً وطاعة سيدي» إلا من رحم ربي.
نماذج الطائفية البغيضة أمامنا في العراق ولبنان وغيرها، مزّقت الدولة وأفشلتها، أفلا نتعظ أم لابد أن نتذوق مرارة التجربة بأنفسنا؟
أدعو من هنا كل موظف شريف أن يمتنع عن تعيين أي شخص «غير كفء» مهما كانت درجة قرابته لمديره أو رئيسه، أو قريب له شخصياً، لأنه ليس فقط يحرم آخر أحق بهذا المكان لكنه يخرب البلد على المستوى البعيد!
تحضرني قصة عن أعمال الجاسوسية، في الواقع لا أتذكر في أي بلدٍ كانت؛ لأني قرأتها منذ فترة بعيدة، ولكن مضمونها له مغزى كبير جداً لذلك دائماً أتذكّرها، القصة باختصار أنه تم القبض على شخصية تنفيذية كبيرة في دولة ما، ضمن شبكة تجسس ضخمة، وورد اسم المسئول الكبير هذا، وتمّ التأكد من تورطه فعلاً في الشبكة التي تعمل ضد بلده، بناء على شهادات مختلفة ممن تم القبض عليهم. هذا ليس غريباً فهناك خونة في كل دولة، لكن الغريب أن الرجل ليس له أي نشاط يذكر من أي نوع، لا مراسلات ولا خطابات ولا أي شيء تم ملاحظاته على الرجل بالمرة، استجوبوا أعضاء الشبكة واستجوبوا الرجل يريدون أن يعلموا «ما دور هذا المسئول الكبير تحديداً؟ فوظيفته كبيرة جداً في الجهاز التنفيذي لدولته. الإجابة بكل بساطة أنه منذ بدأ التعاون مع جهاز المخابرات المعادي لدولته، كانت له مهمة واحدة فقط لا غير، وأمر واحد فقط لا يوجد غيره «عندما تختار شخصاً لأي وظيفة في الدولة اختر أقلهم كفاءة، فهذا كفيل بأن يخرب مستقبل وطن بأكمله»!
تخيّل معي أخي القارئ، مهمة واحدة فقط «اختر الأسوأ»، هو سيتكفل بتدمير الباقي لأنه لاحقاً سيختار من «على شاكلته»، الأسوأ والأضعف والأغبى، وهكذا وهكذا لتذهب الفرص على من يستحقها من النبهاء والأذكياء، وتضيع الأفكار ويقلّ التنفيذ في خضم عدم قدرة هؤلاء على التنفيذ أو التنفيذ الفاشل!
هل يعلم من يختار خطأً أنه بمنزلة ذلك «المتخابر»؟ هل يعلم أنه يدمّر وطنه ودون مقابل يذكر إلا إرضاء لهواه ومحاسيبه وطائفيته؟