انخفاض أسعار النفط يكشف الصورة المخيفة للاقتصاد الخليجي
كشف انخفاض أسعار النفط من 140 دولاراً إلى 30 دولاراً للبرميل الواحد، وما نتج عنه من أضرار اقتصادية واجتماعية كبيرة لدول مجلس التعاون الخليجي، عن حقائق خطيرة للغاية، فقد اتضحت الصورة الخفية والمخيفة للإقتصاد الخليجي وقوته الحقيقية ومدى متانة الرفاهية التي يتمتع بها المواطن الخليجي.
لقد أدركت دول مجلس التعاون بأن وضعها الاقتصادي في أزمة هيكلية حقيقية، ويجب التعامل معه قبل فوات الأوان. كما أدرك الجميع بأن الاستثمارات الهائلة في البنية التحتية والتعليم لم تنجح في إيجاد قطاع غير نفطي واحد، يمكن الاعتماد عليه في تمويل إيرادات الدولة وكبديلٍ لقطاع النفط، وأدّى إلى هروب رؤوس الأموال .
إن العجوزات التي تشهدها الموازنات العامة لدول المنطقة، والارتفاع غير المسبوق في الدين العام نتيجةً للاقتراض الحكومي المباشر وغير المباشر لتغطية العجز المالي، والانخفاض الحاد في السيولة نتيجة لسياسة التقشف التي تنتهجها حكومات المنطقة، والتي قلصت حجم الإنفاق بالموازنات العامة إلى مستويات متدنية، والانخفاض المتواصل في التصنيف الائتماني؛ قد أجبر بعض دول المجلس إلى اللجوء إلى الاحتياطي النقدي لتمويل المصروفات العامة، الأمر الذي دعا صندوق النقد الدولي ليعلن أنه وفي حالة استقرار أسعار النفط عند مستوى 50 دولاراً للبرميل، فإن دول الخليج ستستهلك احتياطاتها النقدية خلال 5 سنوات؛ وأن خسائر هذه الدول من انخفاض أسعار النفط قد بلغت 360 مليار دولار.
لقد قامت هذه الدول بإعادة النظر في سياساتها المالية والاقتصادية من خلال اتخاذ إجراءات وقرارات يمكن اعتبارها تاريخية، لما لها من دور في تغيير الهيكل والنظام الاقتصادي ومصادر تمويله. فقد تم رفع الدعم الحكومي عن عدد من السلع والخدمات، وتجميد التوظيف في القطاع العام، ورفع الرسوم الحكومية وفرض ضرائب جديدة (ضريبة القيمة المضافة) لأول مرةٍ في هذه الدول، كما بدأ التفكير وبشكل جدي في فرض ضريبة الدخل.
إن المشكلة الحقيقية تكمن ليس في انخفاض سعر النفط، وإنّما في النظام الاقتصادي لهذه الدول وبالتحديد في الدور الاقتصادي للدولة، وكذلك في الكيفية والسياسات التي يتم من خلالها استخدام الموارد الطبيعية المتمثلة في النفط والغاز والتي هي موارد غير متجددة، أي أن ما يُؤخذ منها لا يُعوّض، وبذلك فهي موارد محدودة ولفترة زمنية معينة. الأمر الذي يستلزم تحقيق الاستغلال الأمثل لها وعدم التفريط في استخدامها، والأهم من ذلك كان يجب أن تستثمر عوائدها المالية في قطاعات غير نفطية، لتجعل منها مصادر دخل لتمويل المصروفات العامة، وتدعم النشاط الاقتصادي فتكون قادرةً على دعم التنمية وخلق فرص عمل للمواطنين، وبناء مستقبل أفضل وقاعدة إنتاجية متنوعة ومتينة.
إن أهم ما كشفته أزمة انخفاض أسعار النفط هو أنه ومنذ اكتشاف أول بئر للنفط وإلى الآن، وهذه الدول النفطية الخليجية تعتمد اعتماداً كلياً على الإيرادات النفطية في تمويل موازنتها العامة، حيث يصل متوسط نسبة الإيرادات النفطية في هذه الدول إلى 88% من الإيرادات العامة. فهذه الدول وبعد كل هذه السنين، لا تزال مرتبطة بالقطاع النفطي وتسيّرها متغيرات أسعار النفط في الأسواق العالمية. فكلما ارتفعت هذه الأسعار أصبحت الدولة أكثر قدرةً على تمويل النفقات المتكررة ومشاريع البنية التحتية وتوظيف ما تشاء من القوى العاملة في القطاع العام، والعكس صحيح تماماً عندما تنخفض أسعار النفط، حيث تتقلص المقدرة المالية للدولة وتصبح غير قادرة على تنفيذ سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، فتكون ملزمةً على الاقتراض لتمويل العجز المالي في الموازنة العامة.
إنه وبسبب الاعتماد الكلي على الإيرادات النفطية، فقد أصبحت السياسة المالية الأداة الاقتصادية الرئيسية في يد الدولة، ومن خلال هذه الأداة تقوم الدولة بتوزيع الإيرادات النفطية على مختلف القطاعات الاقتصادية، حيث وبهذه الطريقة يتم ضخ السيولة في الاقتصاد، ويتم تمويل المشاريع التنموية وتطوير القطاعات الاقتصادية وتقديم الدعم العشوائي للمواطنين. فالدعم الحكومي ولعقودٍ من الزمن، كان يتجه للأسر الغنية والفقيرة والمواطنين والعمالة الأجنبية على حدٍ سواء، وهذا بلغة الاقتصاد يسمى استنزافاً للموارد المحدودة.
كما أن نمو وحجم القطاع الخاص أصبح مرتبطاً أيضاً بحجم السيولة التي يضخها القطاع العام في الاقتصاد، وكأنما سبب وجود ونمو المؤسسات الخاصة هو حجم تدفق السيولة من القطاع العام. فهي التي تحرّك عجلة الاقتصاد، وهي العنصر الذي يغذي نشاط المؤسسات الخاصة، وهذا في الواقع يعكس خللاً هيكلياً خطيراً في الاقتصاد الخليجي. فالقطاع الخاص، وبسبب انخفاض المصروفات الحكومية، أصبح يعاني من شحّ السيولة، ومن تقلص الطلب العام ومن تدهور الاستقرار الاقتصادي.
الحقيقة هي أن المشكلة التي يعاني منها الاقتصاد الخليجي هي ليست محصورةً في انكماش الإيرادات النفطية ونقص السيولة وسرعة دوران رأس المال، وإنّما في هيكل الاقتصاد ودور الدولة في العملية التنموية. فهي مشكلة هيكلية تتعلق بأسس النظام الاقتصادي والدور الذي تقوم به الدولة. المطلوب هو إعادة النظر في نظامنا الاقتصادي، ليتم فيه تحديد دور الدولة في الاقتصاد ودور أكبر للقطاع الخاص، بالإضافة إلى رؤية واضحة لإدارة الثروات النفطية والمالية، بحيث تتناسب مع الاحتياجات الحالية واحتياجات الأجيال المقبلة.