ضحايا الديكتاتورية
على رغم أنّ سياسة جبر الضرر كانت محلّ انتقاد من حيث استعمالها كأداة سياسية للإفلات من العقاب، إلّا أنّها شكّلت برنامجاً مهماً ساعد في تعزيز فكرة مسئولية الدولة، وقدّمت الكثير من الدروس للعدالة الإصلاحية في جميع أنحاء العالم
يعيش العالم اليوم أزمة ثقة مع الحكومات ولاسيما تلك بدأت تضرب بعرض الحائط انتهاكات حقوق الإنسان وقمع الحريات والقضاء على التعددية في العمل السياسي والإعلامي.
وبلدان المنطقة العربية ليست بعيدة من ذلك، وقد فاقمت ممارساتها القمعية من بعد العام 2011، أي من بعد ست سنوات، فارتفعت إعداد السجون وأرقام المعتقلين من فئة الشباب، وصولاً إلى ملاحقة النشطاء والسياسيين والصحافيين عبر فرض سياسة قمع الأفواه عبر أدوات نظام الدولة البوليسية. وهو الأمر ذاته الذي ذاقته بلد التانغو الأرجنتين في القارة البعيدة بأميركا اللاتينية.
فمن العام 1976 إلى العام 1983، نجمت في هذا البلد سلسلة من الانقلابات العسكرية واختفاء أكثر من 30.000 شخص في حملة إرهاب وتعذيب واختطاف. وهناك من القصص والحكايات التي وثقت في تقارير الأمم المتحدة وأخرى في كتب وأغانٍ وأفلام تحكي حكاية تانغو الحرية الغائب آنذاك في بلد كان لا يعرف سوى لغة الدم والتعذيب عبر حواجز عدة.
فمنذ سقوط الحكم العسكري الأخير في العام 1983، ناضلت الأرجنتين طويلاً وبقوّة لمواجهة هذه الانتهاكات وتعزيز سيادة القانون. والبحث عن الحقيقة والملاحقات القضائية وجبر الضرر. وفي العام 1983، تأسّست اللجنة الوطنية حول الاختفاء إثر صدور مرسوم رئاسي بهذا الصدد، وأصبحت النسخة المختصرة لتقرير اللجنة حول انتهاكات حقوق الإنسان خلال الحكم الديكتاتوري العسكري «أبداً ثانيةً» (Nunca Más (Never Again أفضل كتاب مبيعات في الأرجنتين.
وفي العام 1985، جرت بنجاح ملاحقة قضائية لتسعة أعضاء سابقين من الطغمة العسكرية في محكمة تاريخية أدّت إلى إدانة الرئيسَين السابقَين، جورج رفائيل فيدلا وروبرتو إدواردو فيولا، والأدميرالَين إميليو إدواردو ماسييرا وأرماندو لامبروشيني، والعميد في الجيش أورلندو رامون أغوستي.
على ضوء ذلك، اعترضت الرتب العسكرية الأدنى على الملاحقات القضائية لها، ما دفع حكومة ألفونسن إلى إصدار قرار بإغلاق جميع ملفّات المحاسبة الجنائية من خلال سنّ قوانين تحدّ من مسئولية الجنود القانونية، والإطار الزمني الذي لابدّ أن تُرفع فيه المحاكمات الجنائية. وبعد عدّة سنوات، وجد المجتمع المدني أنّ العمل الجيد الذي نتج عن الملاحقات القضائية السابقة قد جرى تقويضه بقرار الرئيس منعم بالعفو عن أعضاء الطغمة العسكرية المحكوم عليهم.
على رغم تلك النكسات، واصلت حركة حقوق الإنسان الأرجنتينية وعائلات المختفيين ضغوطها للمحاسبة. وفي العام 2003، حكمت المحكمة العليا في الأرجنتين بعدم دستورية القوانين التي تحمي الشخصيات العسكرية من الملاحقة القضائية.
أمّا اليوم فتعبّر السلطات الأرجنتينية بقوّة عن دعمها لملاحقة الجرائم السابقة قضائيّاً. ومنذ العام 2010، رُفعت دعاوى جنائية ضدّ 800 متّهم، وصدرت أحكام بحقّ 200 متّهم.
وتشمل الملاحقات القضائية الحالية قادة بارزين ومرتكبي جرائم مسئولين مباشرةً عنها ومدنيين ساهموا فيها، من ضمنهم كهنة وقضاة ووزراء سابقون.
علاوة على ذلك، رفعت مجموعات حقوق الإنسان آلاف العرائض للحصول على جبر الضرر، منحه الكونغرس في مطلع التسعينيات. وعلى رغم أنّ سياسة جبر الضرر كانت محلّ انتقاد من حيث استعمالها كأداة سياسية للإفلات من العقاب، إلّا أنّها شكّلت برنامجاً مهماً ساعد في تعزيز فكرة مسئولية الدولة، وقدّمت الكثير من الدروس للعدالة الإصلاحية في جميع أنحاء العالم... هذه هي الأرجنتين فماذا ستقدم بلدان العربية في المستقبل القريب؟ وهل تتعلم من تجربة الأرجنتين؟