مبادئ نورمبرغ... محاسبة منتهكي حقوق الانسان
بعد ست سنوات من القمع المتواصل للمواطن العربي، فإن الحاجة إلى قراءة مبادئ نورمبرغ تعيد من جديد إلى أهمية هذه المبادئ المعلنة من بعد حقبة الحرب العالمية الثانية.
محاكمات نورمبرغ تعد من أشهر المحاكمات التي شهدها التاريخ الحديث؛ بل وتناولت المحاكمات في فترتها الأولى، مجرمي حرب النازية، وفي الفترة الثانية تمّت محاكمة الأطباء الذين أجروا التجارب الطبية على البشر. وتمت أول جلسة في 1945 واستمرّت الجلسات حتّى 1946، وتناولت بشكل عام مجرمي الحرب الذين ارتكبوا فظائع بحق الإنسانية في أوروبا. ومن بين الفظائع المرتكبة إنشاء سجون ومعسكرات الاعتقال للمدنيين الأوروبيين، والزجّ بهم في تلك المعتقلات التي اتسمت بأسوأ الظروف المعيشية. وهو أمر ليس بعيداً من واقع السجون في مناطق أخرى بالعالم، خاصة في الدول الديكتاتورية التي لا تأبه بتوفير أبسط الحقوق الإنسانية لمعتقلي الرأي السياسي، ولعل التاريخ الحديث يحظى بكم كبير من القصص والحوادث في الماضي والحاضر، بما فيها المنطقة العربية التي ليست في منأى من ذلك.
ومن لا يعرف مبادئ نورمبرغ، فهي مبادئ أساسية دخلت القانون الدولي، منذ أن حوكم القادة النازيون فيها بعد الحرب العالمية الثانية، وهناك حاليّاً حركة عالمية تدعو إلى اعتماد هذه المبادئ بصورة دائمة من خلال المحكمة الجنائية الدولية، وذلك لمحاسبة ومحاكمة مجرمي الحرب والانتهاكات الإنسانية في أي مكان في العالم.
لقد شهد العام 1935 تنامي قوة النظام النازي في ألمانيا؛ وانعكس ذلك تصاعداً في السياسات المناوئة لليهود. وفي سبتمبر/ أيلول من العام نفسه؛ صدرت قوانين نورمبرغ العنصرية لتكرّس تدني وضع اليهود القانوني من خلال وسيلتين، الأولى إلغاء المساواة في الحقوق المدنية التي نالها اليهود في الحقبة المعروفة في تاريخ أوروبا بعصر التحرر، والثانية إضفاء الصبغة الشرعية على المبادئ العنصرية. وكانت محصلة تلك القوانين فصل اليهود عن سائر السكان، بحيث أصبح للألمان خالصي النسب وحدهم حق المواطنة في ألمانيا، وباتت لهم وحدهم حقوق سياسية. وفي العام 1938 تم تصعيد الحملات والهجمات على اليهود من قبل مختلف المنظمات والمؤسسات النازية من خلال «تطهير» ألمانيا من كل من لا ينتمي إلى العنصر الآري. وصدر مرسوم بإلزام اليهود بتسجيل ممتلكاتهم وذلك تسهيلاً لمصادرتها.
تلك كانت قوانين نورمبرغ التي كانت تُمارس إبان الحقبة النازية، وبسبب تلك القوانين والممارسات اللاإنسانية، انبثقت مبادئ نورمبرغ التي أصبحت إرشادات وضعت بعد الحرب العالمية الثانية.
وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية اليوم امتداداً لمبادئ نورمبرغ، إذ يجرى التمهيد لتطبيق هذه المبادئ لمحاسبة منتهكي حقوق الإنسان، بسبب الحروب أو بسبب الأزمات الداخلية الناتجة عن الاضطهاد والتعذيب والتمييز والاستبداد، وهي ممارسات نشهدها في المنطقة العربية في ظل استمرار سياسات الإفلات من العقاب، وضعف المؤسسات الحالية عن ردع منتهكي حقوق الإنسان.
المحكمة الجنائية الدولية تسعى إلى وضع حد للثقافة العالمية المتمثلة في الإفلات من العقاب، وهذه المحكمة من المفترض أن تمارس دورها القضائي في حال لم تبدِ المحاكم الوطنية رغبتها أو كانت غير قادرة على التحقيق في قضايا الانتهاكات الخطيرة، وهناك اشتراطات لكي تتحرك القضية في المحكمة، بأن تكون الدولة التي وقعت فيها الانتهاكات قد صدقت على ميثاق المحكمة، أو أن يصدر قرار عن مجلس الأمن الدولي يطلب من المحكمة النظر في قضيةٍ ما. وتقتصر قدرة المحكمة على النظر في الجرائم المرتكبة بعد 1 يوليو/ تموز 2002، تاريخ إنشائها، عندما دخل قانون روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ.
إن المحكمة الجنائية الدولية هي أول هيئة قضائية دولية تحظى بولاية عالمية، وبزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان وجرائم الإبادة. وهناك أربع دول عربية؛ هي: جزر القمر، جيبوتي، الأردن وتونس، اعتمدت ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، والسبب في ذلك هو أن الدول الأوروبية تربط مساعداتها للدول الأخرى (مثل الأردن، جيبوتي وجزر القمر) باعتماد تلك الدول ميثاق روما الذي تقوم عليه المحكمة الجنائية الدولية، كما أن تونس انضمت إلى المحكمة في عهد الربيع العربي.
إن معظم الدول العربية لم تنضم إلى المحكمة، وهي ليست الوحيدة في ذلك، وإنما هناك الصين والهند وأميركا وروسيا، التي تمتنع عن المصادقة على ميثاق المحكمة، وذلك لأسباب متعددة. غير أن المهم حاليّاً هو أن حركة حقوق الإنسان العالمية التي تضغط باتجاه تنفيذ مبادئ نورمبرغ بشكل منهجي، ثم إن هناك أيضاً مجلس الأمن الدولي الذي يستطيع في أي وقت إصدار قرار يطلب فيه من المحكمة الدولية النظر في قضية معينة أو محاكمة مسئول في دولة، حتى لو لم تكن تلك الدولة قد اعتمدت ميثاق المحكمة الجنائية الدولية.
ومن المهم الإشارة إلى تطورات موازية تدعم تطبيق العدالة ضد منتهكي الحقوق بشكل عام. كما أن بعض المحاكم الجنائية في عدد من الدول الأوروبية؛ بدأت تنظر في قضايا حقوق الإنسان في أي مكان في العالم، بمعنى أن أية جهة لديها إثباتات ضد من يمارس التعذيب مثلاً، وأن هذه الجهة لم تتمكن من مقاضاة ذلك الشخص؛ فإنه بالإمكان تسجيل القضية في بعض الدول الأوروبية. وبحسب قوانين وطنية صدرت في عدد من الدول الأوروبية؛ فإن «جريمة التعذيب» يمكن تسجيلها حتى لو لم تحدث في ذلك البلد، وحتى لو كان مرتكبها وضحيتها ليست لهما علاقة بذلك البلد. والمنطلق الذي اعتمدته هذه المحاكم هو أن التعذيب جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، وأنها غير مقبولة تحت أي عذر كان.
هناك أيضاً مجلس حقوق الإنسان التابع إلى الأمم المتحدة، الذي ينظر إلى قضايا حقوق الإنسان في كل دولة بحسب المراجعة الدورية الشاملة، أو بحسب عقد جلسات خاصة بدولة معينة (وهي الأخطر في حال انعقادها)، وتعتبر كل هذه المراجعات الدورية والخاصة داعماً أساسيّاً لمنع منتهكي حقوق الإنسان من الإفلات من العقاب.