أن نغرق في «شِبْر مَيّة»
في كل مرة تتساقط علينا الأمطار نستبشر بها فرحاً ونربط أحداثنا في وقت تساقطها بالفأل الحسن لارتباط المطر بالخير والبشرى، وما أن نخرج للشوارع حتى تغرق سياراتنا في المياه المتجمعة، ونبدأ بالشكوى من الضرر الذي يتسبب فيه للسيارات، كما يشتكي الناس من أعطال الكهرباء الناتجة عن تسربات المياه. البعض تتسرب مياه الأمطار من سقوفهم متسببةً بأضرار لا حصر لها للأثاث ومحتويات المنازل.
البعض لا يبالي بحالة الارتباك التي يسببها تجمع الأمطار في الأحياء والطرقات ويمسكون بالجانب الجميل لسقوط المطر، فينطلقون بكل ما يحتمل الطفو على سطح البحيرات الصغيرة التي تتكون بفعل المطر فنرى القوارب تبحر، وزلاقات الماء تزمجر. أحد الأشخاص لم يثنه عدم امتلاكه قارباً فاستخدم آنية الطبخ الكبيرة للإبحار في بحيرة المياه المتجمعة بالقرب من منزله.
في مثل هذه الظروف التي مررنا بها الأسبوع الماضي، تنطلق النكات الساخرة من الوضع وتنتشر في لحظات تارة لتكون مادة للفكاهة والضحك، وتارة للإستهزاء بضعف الجهات المعنية وعدم جاهزيتها للتعامل مع موجة الأمطار الكثيفة غير المتوقعة لكثرة الجفاف الذي تعاني منه البحرين والمنطقة بشكل عام. وقد يبدو من غير العدل المطالبة بأن تكون هناك استعدادات لتصريف مياه أمطار غالباً ما تكون شحيحة، كما تكون استعدادات الدول التي تمر بها مواسم غزيرة الأمطار، لكن من الصعب أيضاً تقبّل غرق الأحياء والشوارع واحتجاز الناس في بيوتهم على مدى أيام بسبب غرق مداخل منازلهم في بحيرات المطر واستحالة الخروج بسياراتهم فيها.
والعبارة التي أصبحت مبتذلةً لكثرة استخدامها عن «انكشاف المستور» بسقوط المطر قد لا تكون دقيقة، إذا افترضنا الجهات المسئولة تعمل بكل طاقتها وبكل أمانة وإخلاص لعمل أقصى ما يمكن عمله، فـ»انكشاف المستور» يوحي بوجود خلل، وأن هناك من يعرف عنه ويخفيه ومن ثم يأتي المطر ليفضح هذا المستور. وإن أحسنا النية في الجهات المسئولة فتعبير «عدم الجاهزية» هو أقرب إلى ما تعرضنا إليه خلال اليومين المطيرين، فالبنية التحتية لم تكن مستعدةً لاستيعاب أية ظروف غير اعتيادية أو مفاجئة لم تكن في الحسبان، مما يعرضها ويعرّض المستفيدين منها للضرر.
الوضع نفسه ينطبق على البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والنماذج كثيرة في الانهيارات التي أدت إليها عدم الجاهزية، فمنذ أن وعت اقتصادات المنطقة على هيمنة النفط على موازناتها وهي تفكّر في تنويع مصادر دخلها، خصوصاً أن مستهلكيه يفكّرون أيضاً في تنويع مصادر الطاقة لأسباب كثيرة من بينها الرأفة بالبيئة، إلا أن خطواتها ظلت بطيئةً لم تحسب حساب الأزمات المنظورة أو الطارئة، وكان ذلك واضحاً في الارتباك الذي أصاب متخذي القرار مع الانهيار الأخير الذي أصاب أسعار النفط، فأُطلقت صفارات التقشف وكذلك البحث عن ما ينقذ الدخل من جيوب المواطنين.
تُذكّر عدم الجاهزية بالأزمة الاجتماعية والثقافية التي عصفت بالمجتمع في حوادث 2011، والتي كشفت عن هشاشة المجتمع، وقيمه، والروابط بين مكوناته التي انهارت عند الاختبار الأول، وتبعها انهيارات أخرى على الأصعدة الأمنية والاقتصادية كانت لها آثارها وما كان هذا سيحدث لو كانت البنى الأساسية الاجتماعية والثقافية متينة وقائمة على أسس راسخة للتعامل الحضاري واحترام الآخر في وقت الأزمات.
لن تتوقف التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية، وحتى الطبيعية كتغيرات المناخ مثلاً، وكلها ستحمل معها تحديات قد تكون غير مسبوقة وستحتاج بدورها لجاهزية مفتوحة الأفق. والاستثمار في البنى الإنسانية بالتأكيد هو أكثر أهمية من الاستثمار في البنى الاسمنتية.
الجانب الإيجابي لموسمنا المطير هذا العام أنه أعاد تنبيهنا، كما يفعل في كل مرة، إلى أهمية بناء الجاهزية في استقبال «كل» خيرات السماء حتى لا تعجز السقوف فوق رؤوسنا عن حمايتنا، ونعاود القول، كما يقول المصريون، في التجربة المقبلة «غرقنا في شبر مية».