لغز الكيمياء
صحوت ذات صباح على رسالة قصيرة في بريد «الفيسبوك» تقول: «وأخيراً وجدتك». لم أصدّق عيني وأنا أقرأ الرسالة القصيرة من صديقتي زينب العمانية ذات الأصول الصومالية.
زينب وأنا التقينا على مقاعد الدراسة في جامعة أوهايو الأميركية في منتصف الثمانينات، ومنذ اليوم الأول عندما بدأنا حديث التعارف الاعتيادي، أصبحنا صديقتين، وعلى مدى عام ونصف كنا نلتقي يومياً، نتحدّث كثيراً عن كل شيء مرّ، وكان يمرّ بنا في ذلك الوقت، عن أفكارنا وعلاقاتنا، ومخاوفنا وأحلامنا. ولم يستغرقنا وقت طويل حتى أصبحت زينب قريبةً من عائلتي الصغيرة في الغربة، والكبيرة في البحرين، وأصبحت بدوري قريبةً من عائلتها في عمان.
بعد تخرجنا من الجامعة افترقت الطرق بنا، ولسببٍ لا أعرفه أضعنا قنوات التواصل بيننا، لكن ظلت الذكريات حاضرةً بتفاصيلها في كل مرةٍ أتصفّح الصور، وانتبهت فقط عندما قرأت الرسالة في ذلك الصباح، أنه قد مرّ أكثر من عقدين ونصف العقد على آخر مرةٍ تحدّثنا فيها.
كان ذلك قبل ثلاثة أعوام، لم نتوقف بعدها عن التواصل وتبادل الزيارات عند كل سانحة، وساعدنا في ذلك مختلف وسائل التواصل المتوافرة، فيتم وصل الخيوط المتقطعة بين الحوادث التي مرّت بنا في كل مرة. فتحنا ذاكرة مشتركة مكتنزة ومددنا جسراً نضيف إليها الجديد من حوادثنا.
وكبرت دائرة الصداقة بين عائلتينا، وعلى رغم أننا لا نتواصل يومياً بل أننا ننقطع لأسابيع، وأحياناً لشهور، إلا أننا، ولازلنا حتى في لقاءاتنا المتباعدة، نتحدّث كثيراً وعن كل شيء، ونضحك أيضاً كثيراً، ضحكاً «سخيفاً» كما كنا نفعل لنهرب من المذاكرة ليلة الامتحان. نشعر، حقاً، وكأن الزمن لم ينقطع بنا كل هذه السنوات بل وكأننا نواصل حديثاً انقطع قبل ساعات فقط.
وفي كل مرة، وبقدر ما يسعدني التواصل مع الأصدقاء، فإنه يجدّد حيرتي في سر تشكّل العلاقات بين البشر. هذه الحيرة تأتي على قدر الأهمية التي أحملها في نفسي للعلاقات الإنسانية.
فما هو هذا الشيء الذي يدني أشخاصاً منا حتى يلامسون قلوبنا بينما ينصب مصدّاته في وجه آخرين. وما الذي يُبقي الأصدقاء أصدقاء حتى وإن افترقت الطرق وتباعدت الأزمنة بينهم؟ هل هو التشابه، أم هو التكامل، أم الاتفاق في الأفكار ونمط الحياة، أم هي قدرتهم على صنع تلك الذاكرة المشتركة، أم هي الأشياء الصغيرة التي يعرفون كيف يدخرونها لأنفسهم في قلوبنا؟
وهذا التساؤل ليس بالضرورة أن يشمل رفقاء الدرب الذين نلتقيهم يومياً في رواحنا ومجيئنا، أو في محطاتنا الحياتية الإلزامية، في جيرة المسكن ومكان العمل، فكثيرٌ من هؤلاء يبقون بلا اسم وبلا وجه، على رغم الأوقات الطويلة التي نقضيها معهم، وإنما أولئك الذين عندما نكون في صحبتهم يتحوّل الزمان والمكان إلى وهم، فيتحرّر الزمن ولا يقاس بالوحدات التي اخترعها له العلماء منذ القدم وإنما بمقدار السعادة التي تتحقق. ويصبح الصديق هو المكان، الذي نأمن على أنفسنا فيه، ولا يصبح للجغرافيا معنى، فقد تربطنا علاقات عميقة بمن يبعدون عنّا آلاف الأميال، بينما هناك من يجاوروننا في حياتنا اليومية ولا ندخل في حوار معهم أكثر من «صباح الخير».
ولا يمكنني في حيرتي هذه أن أتجاوز عموداً يحمل اسم «فكرة» قرأته للكاتب الراحل مصطفى أمين في إحدى الصحف العربية، كتب فيه عن العلاقات الإنسانية قبل أيام من وفاته، ولا زلت أحتفظ بقصاصته منذ العام 1997 لشدة ما جذبني حينئذٍ. يقول أمين: «الزمن لا يحل ألغاز البشر ولا يكشف سرهم. البعض يضع قناعاً وأحياناً أقنعة على وجهه الحقيقي، بينما هناك من هو قريبٌ تذوب معه كل الفوارق فنقترب منه مسافة وفكراً وشعوراً، تسمع الكلمة قبل أن ينطقها، وتضحك للنكتة قبل أن يقولها، وتقتنع بالرأي قبل أن يشرحه». ووصف أمين الصديق بأنه «يشبهك شبهاً مذهلاً من الداخل وإن اختلف معك في المظهر، له نفس الصفات والمزايا والعيوب، يشاركك الرأي في الناس والأفكار والحوادث».
في حديث شريف رُوي عن الرسول (ص) يقول فيه: «الأرواح جنودٌ مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف». ما دفع أمين أن يسترسل في عموده قائلاً: «أنه لابد أن صداقة نشأت بينكما في الحياة الأخرى وأنه جاء ليستأنف هذه الصداقة. فالأرواح تتصافح قبل الأيدي وقبل العيون».
فهل للاختيار مكانٌ في عالم الصداقة أم هو الحظ وحده الذي يؤثث عالمنا بالأصدقاء، ويكون المحظوظ بلا شك هو من يستطيع أن يعلق على جداره مقولة «صديق واحد قد يغنيك عن العالم، ووردة واحدة قد تكفيك عن بساتين الدنيا»!