من نحبُّهم والغياب بدقَّة
لو خصَّصنا أوقاتاً نتذكَّر فيها الذين رحلوا عنَّا وهم في الصميم من القلب وحَبَّته وعَضَلته، لانتابنا من الحنين مرض وربما موت. أتاح الله لنا السُلوَّ والنسيان كي لا يعدَم هذا العالم من يعمّره، ولأنَّ من بين الأحياء من هم بالضرورة في الصميم من القلب أيضاً وحبَّتَه وعضلته، ممن يشكِّلون عنصراً من عناصر توازننا، واقتناعنا بأن في هذا العالم ما يستحق أن يُعاش من أجله.
لا انتهاء لحضورٍ في المركز من الروح لبشر بيننا، وذلك ما يجعل لحياتنا معنى نستشفه في مواقف وأخوَّة وإعمال للضمير، وتحريك للعواطف والتعبير عنها. التعبير الذي كثيراً ما نؤجِّله، ونجده في غير محله أو في غير وقته! مع علمنا وإدراكنا بأن التعبير عن حبنا لمن حولنا، ومن يشكِّلون أهمية ومركزاً في تفاصيل حياتنا، هو جزء من ذلك الحب، وبمثابة مصْل يهبنا الوقاية في كثير من الأحيان. أقلُّها الوقاية من الضجر، وما أدراك بالأثر الذي يُمكن أن يحدثه في كل أمر... كل شيء!
لا ننسى أن الذين مضوا عنَّا دون استئذان، وفي غفلة منَّا يظلُّون الأكثر هيمنة علينا... على أرواحنا... قلوبنا... أوقاتنا، ويتبدَّى مثل ذلك الشعور ومثل تلك القناعة أكثر عندما نتذكَّر أو نشعر بأننا لم نوفِّهم حقهم، والأكثر من ذلك، لأننا كنَّا مشغولين بأنفسنا عن البسيط من حقهم علينا.
كثير هو تساؤلنا: لماذا لا يرحل عن هذا العالم إلاَّ الذين نعتقد بأنهم عَصَبَهُ وقيمته والبقية الباقية من السماحة والحب فيه، أولئك الذين لا نعرف إلَّا طِيبهم وأخلاقهم وبساطتهم وتوازنهم وحبّهم البشر؟ ويأتي التساؤل في صيَغ شتَّى: لماذا لا يُعمرون في الحياة؟ لماذا يترصَّدهم الموت، أو هكذا نعتقد!
يُعيدنا ذلك إلى ما كتبه شكسبير في هذا الشأن: «من نُحبُّهم بشدَّة، يختارهم الغياب بدقة». تلك هي نظرتنا إلى الأمر، وهي نظرة تنطلق من عاطفة وحب أُخذ على حين غرَّة، لكن في الجانب الآخر، يُمكننا أن ننظر إلى الأمر باعتباره خلاصاً لأولئك الطيِّبين ممن نحبُّهم، كي لا يتدنَّسوا بما في هذه الحياة من فائض العبث والحقد والكراهية والانحطاط أيضاً. كأنَّ رحيلهم استشعار وصوْن لما عاشوا من أجله، وثبتوا عليه، ذلك الذي لا يقوى الثبات عليه إلا الراسخون في المواقف، والذين يحملون قلوباً لا تشبه سواها من قلوب، وضمائر هي الدليل على أن بين جنباتهم أرواحاً حرة، ونفوساً أبيَّة.
مقابل ما كتبه شكسبير نقف على ما كتبه إيليا أبوماضي:
إنَّ شرَّ الجُناة في الأرضِ نفسٌ
تتوقَّى قبل الرحيلِ الرحيلا!
أولئك الذين يظلُّ العالم موبوءاً بوجودهم، ومُصاباً بخلل يظل يتفاقم يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، بفعل العبث والتجاوز الذي يظل منهاجاً في الحياة بالنسبة إليهم. أولئك يظلون يجْنُون على الحياة مع كل نفَسٍ من أنفاسهم، وتظل الحياة في عذابات وفي خلوٍّ من الطمأنينة كلما عمّروا، في الوقت الذي تحتضر فيه الحياة، أو على شفا احتضار!