عن الشاعر الأول وأجهزة القياس!
أول شخص في التاريخ كتب الشعر، كان في عُزلته. هكذا أتخيَّل، أو هكذا يُفترض أن يكون عليه الوضع. كلام مع النفس في أوله، لا كأيِّ كلام. كأنه اكتشاف الذات للمرة الأولى. كأنه اكتشاف لموقعه في هذا العالم، صغُر أم كبُر ذلك العالم. وكأنه الحوار الأول العميق بين الإنسان ونفسه.
لم يضع الشاعر الأول الذي لا نعرفه، في حسابه الذين سيأتون من بعده، بأجهزة ونظريات قياس: قياس وزن وبحور ما كتب. لم تعْنِ له تلك الأجهزة شيئاً. لم تعْنِ له تلك النظريات شيئاً؛ طالما ظل قادراً على اكتشاف مزيد من المجهول في ذاته، والمزيد من المجهول في عالمه؛ إيماناً منه بأن تلك الذات لا تقلُّ في امتدادها عن الكون الذي يعيش فيه، والأرض التي يدبُّ عليها.
لم يضع الشاعر الأول الذي لا نعرف في حسبانه المنصَّات التي ستُفسد الكثير من بكارة تأمُّله بقياساتها. ستتطاول على عفويته. ستستجوب بساطته أحياناً. لم يضع في حسبانه الجمهور الذي حضر ويحضر بسبب هروبه من شيء ما. لم يحضر لاكتشاف ذاته. على الأقل الغالب من ذلك الجهور. لم يضع في حسبانه الرقابة أيضاً. الرقابة التي تريد تشكيله من خلال تشويه الكلام الذي لم يقلْه، أو فرْض ما تريد هي قوله!
كل محاولة لاكتشاف الذات والعالم والكائنات هي شعر أو محاولة للاقتراب من الشعر. ولن تُغيِّر أجهزة قياس ونظريات وزن الشعر وتحديد بحوره من حقيقة أن الإنسان بطبْعه شاعر، لكنه بحاجة لاكتشاف ذلك، والاعتناء به. بحاجة أحياناً إلى عزلة تُتيح له ذلك. كأن في العزلة اكتشاف البسيط الذي يمكن أن يغيِّر مزاج العالم ووجهْته. وهو بحاجة بالضرورة إلى إدمان تمارين من التأمُّل تذكِّره بمركزيته في هذا العالم.
***
شعوب السراب، تطارد الوهم. شعوب المستقبل، تطارد الإنجاز، انطلاقاً من مُخيَّلتها الخصْبة.
رعايا الماضي يموتون في وحدتهم بفعل حنين يظل كاذباً ورديئاً، في ظل عجز «خارق»! عجز يصيب حتى الأشياء بالدهشة! الدهشة من الخواء والفراغ و «التنبلة»!
رعايا الحاضر، المتحسِّسون، والوَجِلون من المستقبل، هم امتداد لرعايا الماضي. يصعب في أحيان كثيرة أن نفصل هؤلاء عن أولئك.
موقفنا من أولئك، يبرز في تأكيد موهبتهم في تشويه ما يحوي الماضي من جمال وإن كان نادراً، وضغط على مساحة الأرض في الحاضر؛ علاوة على أنهم لن يجدوا أبواباً يدخلون منها إلى المستقبل.
كأننا خارج حدود وأضلاع ذلك المثلث. فلا انطلقنا من القوة في ذلك الماضي لتحصين الحاضر، ولا إثبات على أننا أحياء في هذا الحاضر، بالموت الذي نشيعه. موت يأتي في هيئة تفرُّج... استهلاك... وتواكل لا نهاية له، عدا الموت الذي طال الجهات الأربع بفعل مخمورين بتفسير وفهم نصوص، تدفعهم دفعاً لتفخيخ مؤخراتهم ومن ثم تفخيخ الحياة!
ليتنا نملك القدرة على العودة إلى الأرحام التي جئنا منها، فلدى هذا الكوكب من الكوارث ما يكفيه!!!
***
مستفزِّة لكثيرين هي مقولة وليم شكسبير: «الرجل الذي لا تكمن فيه الموسيقى ولا تحرِّكه النغمات الجميلة لا يمكن الوثوق به». هل لأن روحه ونفسه متورِّطة في اليباس أو اليباب؟ لا فرق. تبرز قدرة الفن، والموسيقى ضمن أجلى شواهدها، في تهذيب النفس وتخليصها من الجلافة الرابضة عليها. وبذلك الدور تكون الموسيقى في مصاف أدوات الإصلاح الناجعة عبر التاريخ. الإصغاء إلى الموسيقى وحده لا يكفي، ما دامت أسوار عملاقة رابضة في تلك النفس، تحُول بينها وبين التوحُّد مع ذلك الجمال الذي يكاد يكون من دون حدود يمكن الوقوف عند إدهاشها، والسحر الذي يمكن أن تصنعه. كأن في قطْع الصِّلة بالموسيقى قطْعاً للصلة بالجمال. كأنه قطْع للصلة بحال التوازن الذي تحتاجه النفس، ومن دونه هي في حال من الغياب والتيه المفتوح على المجهول.
والذين يأتون من البيئات الضاغطة على النفس ومواراة الجمال، بحكم يباسها، تملك الموسيقى قدرتها العجيبة على اكتشاف سُوء وسوأة تلك البيئات، وتقديمها كما هي لمن ينتمون إليها، تحريضاً منها، واستدراجاً لتدارك ما فاتهم من إحدى أجمل نعم الحياة، وأكثرها قدرة على البقاء وإعادة صوغ جوانب من النفس البشرية الغارقة في تيهها ومجهولها وحيرتها.