ترامب... وعودة بناء الجدار العازل
المرحلة الحالية التي يعيشها العالم هي مرحلة مخاض تتشكل فيها ملامح جديدة وفكر جديد قد يبدأ بفرض نفسه على العالم. هذا العالم الذي يبدو أنه يحتضن مرحلة أكثر قساوة وإيلاماً بالنسبة لحقوق الإنسان، بعيداً عن غصن الزيتون وحمامة السلام.
هذا الكلام لم يخرج من فراغ؛ ولكن من وضع مترنح، ضبابي -إن صح لنا التعبير- في مناطق كثيرة من العالم تتفاقم فيها الصراعات، لاسيما في المنطقة العربية التي يبدو أن مشرقها لن يهدأ، بل هو مقبل على اندلاع حرب إقليمية جديدة أو عالمية، بعد أن تغيّرت الموازين في حروب المنطقة التي انطلقت من بعد العام 2011، لتقاوم الربيع العربي، ولتجنّد الشباب في حركات الإرهاب، وتقلب مفاهيم الحرية رأساً على عقب.
قد يكون بديلاً لهزائم الشر، وأيضاً بداية لتكون الدول الصغرى ضحية للعبة تغيير الموازين في المنطقة. لن يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل أصبح «الجدار العازل» ثقافة يضرب بها المثل زعماء دول منذ فترة ليست بعيدة. فهي تبدأ بالحصار، وتنتهي ببناء جدران العزل، لإلغاء أبسط حقوق الفرد، ما يأتي ضمن منهجية الفصل العنصري مثلما فعلت إسرائيل بالضفة الغربية.
لقد شهد العالم في تاريخه الطويل الكثير من الجدران العنصرية أو العرقية أو الطائفية أو المذهبية أو السياسية، مثل جدار كمبوديا، وجدار استراليا، وجدار بيغ وول، وجوهانسبرغ قبل انهيار النظام العنصري وصولاً إلى جدار برلين، الذي فصل ألمانيا إلى اثنتين.
الجدار ليس شرطاً أن يكون إسمنتياً، فقد يكون سياجاً حديدياً أو طبيعياً يفصل بين ديانتين أو طائفتين أو عرقين، ينعدم بينهما السلام وفرص العيش المشترك. فمبدأ الجدران تقوم على وضع حدود مادية ونفسية ووظائفية بشكل أساسي، وتصبح العلاقة غير صحية وسليمة ومتقلبة بشكل حاد أو عدائية. فنلاحظ أن الكثير من الجدران في العالم انهارت مع نهاية الأمر، ولم تعد موجودة؛ لأنها فعل سيء، وانتهاك حقيقي لحقوق الإنسان.
ويمثل جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل أبرز أنواع الانتهاكات الصارخة لحقوق الفلسطينيين، ومن هذه النقطة تأتي أهمية الكتابة بهذا الموضوع الذي لا يزال وبشكل دائم يعكس أبرز نقاط التعذيب اليومية للفلسطينيين بكافة شرائحهم، فهو يمسّ جوانب حياتية متعددة. والجدار العازل اليوم عبارةٌ عن حاجز طويل بنته إسرائيل في الضفة الغربية، لمنع سكّانها من دخول إسرائيل وأراضي المستوطنات الاسرائيلية القريبة من الخط الأخضر، ويتكوّن هذا الجدار من سياج وطرق ودوريات وأسوار.
تعود فكرة هذا الجدار بالأصل إلى رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين، حين قال: «أخرجوا غزة من تل أبيب»، وأشار إلى أحد الصحافيين قائلاً: «إننا نعمل بجد ونشاط من أجل الانفصال عن الشعب الآخر، وإننا سنصل إلى هذه الغاية عاجلاً أم أجلاً».
الفكرة لم تكن وليدة يوم أو ليلة، ولكنها ضمن الطموحات الإسرائيلية، إذ برزت منذ ذلك الوقت، أيام رابين، فكرة الانفصال التام عن الفلسطينيين، مع حصرهم في مناطق قليلة، تدفعهم للخروج في النهاية من فلسطين، وعدم العودة إليها.
واليوم يقف ويتكلّم بصورة صريحة، رئيس أكبر دولة في العالم، وهو يرحّب ويأمر ببناء جدار عازل بين بلاده والمكسيك. الرئيس دونالد ترامب أكّد في مقابلته مع شبكة «فوكس نيوز» أن «الجدار سيحمي الشعب الأميركي، وإن الناس تحتاج إلى حماية والجدار سيحميهم»، معلقاً بأن «كل ما عليك فعله هو أن تسأل إسرائيل، كانت لديهم كارثة تنهال عليهم عبر الحدود، فبنوا الجدار، وقد وقف التسرب عبر الحدود داخل إسرائيل إلى 99.9 في المئة».
قرار ترامب أثار جدلاً واسعاً في العالم، وليس فقط داخل أميركا، خاصةً في المناطق الحدودية، ونتجت عنه أزمة دبلوماسية مع المكسيك، عدّها المراقبون هي الأسوأ منذ عقود.
الرئيس الأميركي طالب نظيره المكسيكي عبر تغريدة على «تويتر»، بإلغاء اجتماع كان مقرراُ بينهما في واشنطن إذا لم يكن على استعداد لدفع تكلفة الجدار الذي تعتزم الولايات المتحدة بناءه على الحدود بين البلدين، فسارع الأخير إلى الردّ عبر تغريدةٍ أيضاً يوم الخميس الماضي (26 يناير/كانون الثاني 2017)، أعلن فيها عدم حضوره الاجتماع، مجدداً استعداده للعمل مع الولايات المتحدة للوصول إلى اتفاقات لصالح البلدين.
إن ثقافة الجدران العازلة، ومعها ثقافة الكراهية، تعدان إحدى سمات المرحلة المقبلة في خلق الحروب الجديدة، خاصةً في ظلّ تنامي لغة العداء ضد الأعراق والأديان. في الوقت الذي يمارس فيه الإعلام دوراً خطيراً على تغذية هذه الثقافات إعلامياً في العالم، اعتقاداً أن الإسلام مثلاً يتنافى مع القيم الأميركية والغربية... وهو ما ينذر بشر مرحلة، قد تؤدي إلى مزيد من الصراع، ومزيد من الاحتقان، ومزيد من تمزيق وحدة المجتمع الواحد.