ذاكرة تحت الصفْر
ما الذي جاء به إلى بريَّة الصقيع هذه؟ لا ينتمي إلا لبيئة يستحضر فيها المرْء حفلات الشواء. شواء الحيوانات والبشر، لا فرق. هناك حيث الشمس على بيت الرأس، والدماغ يغلي، وكثيراً مّا تغلي معه العواطف، ويتسجَّر الدم، ويغور ماء العين. هذه البقعة من الأرض تُتيح لك أن تعيش ألف سنة بشرط أن تفارق الحياة في صقيعها. الفارق أن بريّة التراب وقحة كالتيه الشاخص فيها، تتربّص بك في كل وادٍ؛ وأنت في قيلولة تحت ظل شجرة غاف.
ما الذي دفع به إلى هذا المكان المُوحش كذكرياته؟ الذكريات المُوحشة تُغري على التبرؤ منها. كم عُمراً ستحتاج لكي تتبرَّأ من ذكرياتك التي لا تحب؟ لا شيء هنا يشير إلى قيمته. تماماً كالهباء المفتوح على الاحتمالات الأسوأ.
يفتِّش في ذاكرته عن وجوه أحبَّها، وأخرى بادلها الغدْر، وها هي تغدر به الآن. لا يتذكَّر سوى أنه نام في بيته كالعادة، ليجد نفسه في غرفة بالكاد تَسَعُه حين يمدّ جسده. غرفة من صقيع ونافذة تكاد تقترب من السقف، يكاد لا يرى يده فيها. لم يقرب من هجاء العائلات. لم يمرّ على شارع فيه شرطي، لم يكتب إلا هواجسه وخوفه من أن يتحوَّل الوطن إلى علبة كبريت أو ثقب إبرة. مرَّت عليه أوقات لصق الحائط، وروَّض نفسه على ألَّا يهمس في زحام لن يكون آمناً. في الزحام كل البشر عيون عليك، ووحدك لن تنجو في زحام مُعدٍّ لك.
لا يتذكَّر سوى أن له أبناء لا يحفظ ملامحهم لفرط التيه والسهر والسفر.
تذكَّر ابن غيث يوم أن وجد نفسه في مصحَّة عقلية، مُتخذاً من زاوية في الممر الرئيس موضعاً لخطبته اليومية، مُصرّاً على أنه في «الهايدبارك»؛ حيث يحق له هناك ما لا يحق له في وطنه، وحتى في بيته. يتذكّره وهو يجادل طبيباً آسيوياً، وظيفته أن يحرمه من حالات التشنّج التي تنتابه، وحق الصحوة التي لا ينالها إلا قليلاً. قال له ذات صحوة نادرة: «لا أريد حقنة العفاريت التي تغرزها في العروق التي تهرَّأت. عاثت في هدأتنا الكوابيس التي لم نعرفها منذ صَحَوْنَا على الأسرَّة البيضاء مكبَّلين. جحظت عيوننا التي ذهب السقف بنورها لفرط التحديق. صرنا عصب مختبراتكم التي لن نخرج من تجاربها إلا جثثاً في مكب للنفايات، أو أكياس جمع القمامة، لتسجّل القضية ضد مجهول، مثلنا نحن المجهولين في هذه الحياة... في زحام الحياة وصقيعها».
لن تقوى في بريَّة الصقيع هذه على استدعاء الوجوه والملامح التي أقامت في ذاكرتك، أو تلك التي مرَّت كالغريب في جهات يبحث فيها عن ملاذ شحيح.
يمثل ابن غيث في هيئة راهب، كأنه يُومئ إلى البحر بعصاه: «كم هضمتَ من لحم الذين لوَّحنا لهم بالمناديل والوداع. أيها السرير المائي الغادر، خذنا في لجَّتك كي ننجو»!
في غرفة الصقيع التي وجد نفسه فيها، استرق السمع إلى الطبيب الآسيوي وهو يخبر من يشبه ابنه أو يكاد: «لم يعد حاضراً في هذا العالم. اتركوه لذاكراته التي لم تعد ذاكرة، فهي تحت الصفر»!