من بين الذين لن يعرفوا ملاذاً!
لن تجد مُروءة في حاسد، أو حاقد، أو طمَّاع، أو متآمر، أو خائن. ولن تجدها في الذين يتبرَّعون من تلقاء أنفسهم كي يكونوا عبيداً. ومن بين النمط الأخير من يتحدث ويثرثر بالحرية؛ فيما كل ما يدل عليه يشير إلى عبودية ارتضاها، ويجد فيها ملاذه! لا يمكن للمروءة أن تلتقي بكل تلك الأحقاد والانحرافات والنفس المضطربة، والانهيار في الأخلاق، وانعدام التوازن، واضمحلال الحس، وعدم الشعور بعذابات الناس وعنائهم، وجدارتهم فيما حققوه، وحقهم في نصيب من تلك الحياة والفرص فيها.
الحاسد لديه مُشكلة مع نفسه المُضطربة قبل أن تكون مُشكلة مع موضوع أو طرف الحسد.
ثم إن الحسد لا يتوقف عند مسألة «شعور عاطفي يتحدَّد بتمنِّي زوال قوَّة أو إنجاز أو ملْك أو ميّزة من شخص آخر والحصول عليها؛ أو يكتفي الحاسد بالرغبة في زوالها من الآخرين». إنه أكبر من ذلك بكثير. أكبر من حيث الجحيم الذي لا يعرف فتوراً في نفس صاحبه، وهو مبعث التعاسة، أو «أحد أقوى أسباب التعاسة»، في إحدى إشارات الفيلسوف وعالم المنطق والرياضي والمؤرخ والناقد الاجتماعي البريطاني بيرتراند راسل.
ومن يحقد لديه مُشكلة؛ بل مشاكل مع جوانب نقص لا حصر لها يتوهَّم سدَّها بذلك السلوك؛ أي بما هو أبشع وأقبح. وبالنأي عن تعريفاته من منظور نفسي باعتباره مرضاً، لن ينجو أصحابه من وصمة تلازمهم، بالوقوف على تعريفه لغة، وعلَّ الأديب والمؤرِّخ واللغوي ابن منظور، محمد بن مكرم ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (1232م - 1311م - 630هـ - 711هـ)، في سفْره «لسان العرب»، خير من يعيننا على ذلك بتعريفه «الحقد: إمساك العداوة في القلب والتربُّص لفرصتها»، ولا تُوجد أمَّة من الأمم في منأى عن تلك الآفة والمرض المستعصي.
والطمَّاع لن يسدَّ عينه حتى التراب لو عمَّر كل مُعمَّر؛ سيظل لاهثاً، أجيراً وعبداً لأطماعه التي يفنى دون أن يقنع بما حقق، ويظل مُتذمِّراً مما هو عليه مهما كان ذا شأن - ظاهراً -عند آخرين، وذلك ما يجعله في الضِّعَة، ولن يعرف إلى السمو مقاماً. ويتبدَّى داء الطمع في سعي وتكالب كثيرين، وبشهوة لا يُمكن إغفالها، في سبيل امتلاك ثروات أو الاستحواذ على مناصب أو سلع استئثاراً بها، وبما يتجاوز حاجاتهم، تعدِّياً وتجاوزاً لحاجات الآخرين الذين قد لا يجدون ما يسدُّ رمقهم. ومن يتآمر فيه خلَّات ضعف، ومُحاصر بوهن لا حدَّ له، وتكتظ نفسه بليْل يشبه مساعيه. عدوُّ النهار هو، في ختله ومكائده وأحابيله.
أنماط البشر تلك، لا يمكن لها أن تعرف في حياتها استقراراً وطمأنينة مادامت مُنشغلة بكل ذلك. لا يتوافر الاستقرار والطمأنينة إلا للنفس الخالية من جزعها، والبعيدة عن انشغالها بما يفتن ويُخرِّب ويُدمِّر ويُحيل الحياة إلى جحيم.
وفي التآمر حرمان لا يخفى، أو نية حرمان من حق من الحقوق، أو ترتيب روابط وعلاقات هدفها الخداع للحصول على مستحقات للغير تظل غير مشروعة بأي وجه من الوجوه بتلك الممارسة.
أما الذين جُبلوا على الخيانة فيمكن اعتبارهم دنَساً يمشي على قدمين. باندفاعهم نحو انتهاك العهود وخرْقها، وكذلك الأمانات، وما قد يكون قد ترسَّخ من ثقة بين بعض البشر؛ ما ينتج عن كل ذلك صراع لا يُقيم ثباتاً في العلاقات الإنسانية، ويهدِّدها ضرْباً لها في مقتل. هم أصحاب الغدْر أيضاً، أولئك الذين ورد فيهم حديث شريف؛ بل جملة أحاديث من بينها «إن الغادر يُرفع له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان ابن فلان».
أما العبيد الذين يذهبون بخيارهم إلى العبودية، وهم كُثُر في أزمنتنا، فبينهم وبين المروءة كالذي بين المشرق والمغرب... السماء والأرض... الأوْج والحفر. أولئك الذين ينازعون الناس حقهم في حياة حُرَّة وكريمة. حياة خالية من الوصاية، وخالية من الارتهان. مثل أولئك لن يطمئنوا ما لم يجدوا الناس على تطابق تام مع حالهم، من إذعان، وخضوع، وارتهان. كأنَّ الذين يختلفون عنهم أو على تضادّ معهم، يُشكِّلون مصادر تهديد لوجودهم، وكأنهم حازوا شيئاً من ذلك الوجود أو ما يدل عليه بكل ذلك الإذعان والارتهان، ونفي المروءة.
لن يجد أولئك ملاذاً حقيقياً لهم، وإن توهَّموا أن ملاذهم فيما يمارسون ويعانونه من أمراض استفحلت فيهم، وكأن عافيتهم مرهونة بتأبيد تلك الأمراض! ومن بين تلك الأنماط كُثُر يمكن لنا بسهولة تفحُّص ممارساتهم وهم يعيشون بين ظهرانينا، ممن في سيماهم أثر الشحناء والقلق في بُعده المَرَضي، وشهوة الاستحواذ.
أولئك وأشباهم، يُبرهنون لنا، وبتبرُّع سخيٍّ منهم، من دون أن يشعروا، بأن الحياة لا يُمكن لها أن تستقيم، وتكون ذات معنى وجدوى. معنى نحن من نمنحه إياها، بتناسل أولئك، وتحكُّمهم في مفاصل الحياة، والدفع بهم دفعاً في صدارة المشهد. كل مشهد يتم رسْمه لهم!