العدد 5234 بتاريخ 04-01-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةالأعمدة
شارك:


أن تتصالح مع نفسك أولاً

من السهْل أن تُراكم العَداوات بالتهوُّر والصَلَف والاندفاع والتأهُّب للعداء، وقلَّة الأدب، والإحساس بالخسران المبين مهما فعلت؛ لأنك لا تفعل عن اقتناع وصدق وتوجُّه وحبٍّ بالضرورة.

من السهل على أيِّ واحد منا اليوم وغداً مراكمة أعدائه، كما هو الحال بالأمس. العداوة تحتاج إلى أن تخرج على فطرتك الإنسانية. أن تكون متأهِّباً للصدام، ولا تحتاج إلى مُبرِّر يسوِّغ لك ذلك. أن تتحوَّل إلى مركز تنفير منك، وكأنك بذلك توجه دعوة مفتوحة لإجماع الناس على كراهيتك والنأي بنفسها عنك. كأنك تحدِّد لنفسك أن تكون وباء يتجنَّبه الخلق، وحتى البهائم.

تلك العيِّنات من البشر هي واقعاً واحدة من أسباب اختلال توازن العالم في علاقاته وحيويته، والحيلولة دون أن يعيش بشره حياتهم الطبيعية.

لا شيء أقسى على البشر اليوم من محاولة إخراجهم من إنسانيتهم وعفويتهم وفطرتهم، ودفعهم دفعاً إلى انتهاج أساليب وطرق لا شيء منها يدل على استتباب أمورهم واستقرار علاقاتهم. لا شيء منها يدل على بشريتهم.

لم أجد ما يتجاوز العزلة في قارة؛ أو في هذا العالم وحيداً مع الأشياء فقط، حين لا يراك بشر وسط كل هذا الزحام. أن تكون معزولاً في خضم طوفان بشري، أو حتى في حدود مجتمعك الصغير والمحدود. فأن تكون معزولاً وسط كل أولئك؛ يعني في صورة أو أخرى ألَّا فرق بين كونك حيَّاً أو ميِّتاً وتكاد تكون أقرب إلى الموت من الحياة، وفي قبر هذه المرة فوق الأرض لا تحتها بالذي مارسْته من الأَذى، وما ارتكبْته من تجاوز، وما اعتدْتَه من عُدوان، وجُبلْتَ عليه من سوء طويَّة، وافتراض أنك مُستهدف من كل أولئك البشر؛ لذا تكون المبادرة في الخسف طريقتك لتوهُّم إعمار ما تراه خراباً، فيما أنت تستوي على خرابك.

لا يمكن لأي كائن بشري أن يتصالح مع العالم من حوله ما لم يتصالح مع نفسه في المقام الأول. تلك المصالحة مع النفس أو مع الذات، تتيح لأيٍّ منا مساحات كبرى من المراجعة والتأنِّي وتقليب المواقف، والبحث عن الأعذار أو حتى اختلاقها، أمام الغامض والملتبس من تلك المواقف والسلوكات، وهو اختلاق نبيل نفعه أكثر من ضرَّه، ولا يُنقص من قيمة الإنسان شيئاً؛ بل على العكس من ذلك، يضعه في مرتبة فيها من السمو والرفعة ما لا يخفى على مرضى النفوس قبل الأسوياء منهم.

يكفي في التصالح مع الذات أو النفس، خلوُّها من العنت، ومبارحتها ما يُثقل كاهلها. ولا شيء أقسى على النفس من تعدُّد من تصنِّفهم أعداء أو مشاريع أعداء؛ إذ لا يترك لك أولئك فرصة أن ترى الحياة بعيداً عن نماذجهم، ولا يترك فرصة أن تتعاطى مع الحياة بعيداً عن شروطهم، والتأهب المستمر لدفعهم.

ذلك لا يعني خلوَّ الحياة من أولئك، ولا يعني في الوقت نفسه أن ينام البشر في اطمئنان بالغ؛ إذ لا يرد ذلك الاطمئنان ما يحاك من دسائس، وما يدبَّر في ليل بشر لم تعرف نفوسهم نوراً، ولم تستشرف سمواً، ولم تعرف صنيع الحب المُعجز.

النفوس تشيخ بانتظار من يستهدفها، أما تلك التي لا تجعل الاستهداف الشغل الشاغل في حركة حياتها، فلن تعرف إلى الشيخوخة والوهن سبيلاً، بقدرتها على تأكيد سمو الذات، وقدرتها على أن تحدِّد ما الذي يدفع بها إلى المضيِّ نحو الأهداف، لا الذي يعوقها ويجعلها مشدودة لانتظار نهاياتها.

وفي الجانب الآخر، لن يعرف المشغولون بالانتقام استقراراً، ولن ينتهي الأمر عند انتقامهم، فمنه تبدأ المتاهات، ولن يصل أصحابه إلى حال سلام مع أنفسهم طالما ظلوا مشغولين بحروب لا نهايات لها مع الآخرين، ومع أنفسهم واقعاً!

ولا مخرج من كل ذلك إلا بالتصالح مع النفس أولاً؛ ما يمهِّد وبسلاسة التصالح مع الآخرين، على الأقل في الحدود الدنيا مما يمكن للنفس البشرية أن تتعاطى معه وتتحمَّله، وربما تنسجم معه، من دون أذى أو تنقيص.



أضف تعليق



التعليقات 4
زائر 1 | 10:48 م لن يسمعوك استاذ جعفر . فقد ختم الله على قلوبهم واعمى بصيرتهم فهم كا البهائم واكثر قليلا فتركهم ونحن سنضحك عليهم. رد على تعليق
زائر 2 | 11:53 م نعم كلام الله عز وجل واضح (أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) , لكن وين الي يقرأ ويتدبر ويكون عنده أيمان بالله ليفكر؟ رد على تعليق
زائر 3 | 1:46 ص لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ابشع الظلم اللقوي على الضعيف سواء اب مع ابنائه او رئيس او مدير رد على تعليق
زائر 4 | 8:41 ص مقال رائع جدا استاذ جفعر أتمنى انك تكثر من هذه المقالات الجميلة و المفيدة . الله يوفقك امين . رد على تعليق