العدد 5227 بتاريخ 28-12-2016م تسجيل الدخول


الرئيسيةالأعمدة
شارك:


منطق الفلسفات الجميلة ومنطق صراخ طفل جائع

أقتبس لعنوان هذه المقالة ما هو قريب مما كتبتْه الأديبة السورية غادة السمَّان، انطلاقاً من رؤية صحيحة في جوانب منها، ترى الانشغال المتصاعد، والذي لا يكاد يهدأ، ذلك الذي يدور بين المُهتمِّين والمعنيِّين، بالجدل الدائر بين الاتجاهات الفلسفية والجمالية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكذلك الأدبية، مما يأخذ منهم أوقاتاً وربما أعماراً، من دون أن يُحسم أيٌّ من ذلك الجدل، ويظل مفتوحاً أحياناً على العصبية، والمُكابرة، والفراغ، وحتى المغالطة أحياناً أخرى.

ثمة انشغال بالإنسان وسط كل ذلك، من دون شك، ولنقُل جزء كبير من ذلك الجدل وليس كله. بعض منه يأتي لإثبات الذات، وربما لتكريس وجَاهة أو اختلاف أو ربما لتحقيق سبْق وصيْت وحضور، فيما بعض الذين يقفون من وراء كل ذلك في معزل عمَّا يعني الإنسان ومباشرة قضاياه وشئونه البسيطة، وخصوصاً تلك التي يمكن إحداث تغيير فيها، على أقل تقدير، بالقيام بالدور وعن قناعة وتوجُّه كامل، والأهم، الإخلاص لذلك الدور، والحرص على أن يكون ذلك الاشتغال له نتائجه ومؤدَّياته وثماره.

من الالتفاتات الجميلة والعميقة التي يُعنى بها بعض الأدباء والكتَّاب، ملامسة ما يملأ حضور الإنسان في أبسط ما يعانيه وما يمرُّ به من خلال مقاربات، وربما مساحات لا تخلو من شعرية، لكنها تُقدِّم خلاصة مواقف، وحضور حسٍّ. أقول من بين تلك الالتفاتات ما كتبته الأديبة والكاتبة السورية غادة السمان، ذات نص: «منطق كل ما في العالم من فلسفات جميلة ينهار أمام منطق صراخ طفل جائع».

هل لأن ذلك المنطق ينشأ بالانفصال البيِّن عن تلمُّس حاجات الإنسان، بدل التوغُّل في البحث عمَّا يخفف من وطأة الظروف التي تكبس على أنفاسه، وتُوسِّع الحيِّز الذي يكاد يضيق به، أو من المفترض أن يتحرَّك فيه من دون وصايات أو مصادرات أو إيغال في التهميش؟ هل الإنسان في المركز اليوم؟ هل تضع تلك «الفلسفات الجميلة» بحسب تعبير السمَّان، الإنسان في ما يقترب من ذلك المركز على الأقل؟ إذا كان الردُّ بالإيجاب، إذاً لماذا يكاد الإنسان لا يُرى؟ ولا يكاد يُسمع أنينه وصراخه؟ لماذا يظل وقوداً في الحروب، ونهْباً للفقر، ورهينة للأمراض والحاجة؟

لا أحد يمكن أن يتصوَّر العالم من دون تلك الفلسفات الجميلة، أو غيرها من الفنون والآداب، ولكن لا أحد يمكنه أن يرى العالم سويَّاً ولا يعاني من خلل وجودي، حين يكون الإنسان في أطراف الهامش أو ما بعده، وفي أحيان يكاد لا يُرى بالعين المُجرَّدة. عين العالم التي استطاعت أن ترى البعيد من المجرَّات والكواكب، ولكنها عجزت عن رؤية البشر في المجمَّع السكني الواحد، وهم يعيشون في مستويات وظروف، ربما لا تليق حتى بالبهائم. تلك «الفلسفات الجميلة» وغيرها في عمليات الترويج لها، وفي ظل ظروف حادَّة وحرجة يعيشها البشر، بفعل الحروب والصراعات، تقدِّم ما يشبه صورة هي على متاخمة من ذلك الذي ينصح جائعاً بالاستماع إلى السمفونية التاسعة لبتهوفن!

ليس منطق الفلسفات الجميلة وحده الذي يسقط أمام منطق صراخ طفل جائع، بل تنكشف اللاأخلاق واللاقيم، ويتحوَّل كل هذا الإنجاز المديني إلى ما دون القشْر، مادام أثبت عجزه عن ردِّ الاعتبار للإنسان، بذلك الإمعان في الغياب الحقيقي عمَّا يحدث على هذا الكوكب، على رغم أن مثل تلك الفلسفات وما يلحق بها، جاءت وتراكمت من أجل ترسيخ الحضور في هذا العالم.

بكل ما سبق، والكلام على مركزية الإنسان فيما يمكن لأي مختبر، أو جامعة، أو فلسفات، أو فنون، أو آداب، أو معارف أن تنجزه ليكون أقدر على صنع الحياة والإضافة إليها، يمكن للصورة أن تكون أكثر وضوحاً بانتهاء واضمحلال وذوبان كل ذلك. كأن كل ما سبق يسهم إسهاماً مباشراً في أن يقترب العالم والحياة من الشيخوخة التي لا لياقة لديها كي تواجه العنفوان الذي تتطلَّبه وتشترطه تلك الحياة. ولم تبتعد غادة السمَّان عن ذلك المعنى، وعن تلك الرؤية في كتابة أخرى حين وقفت على ما يمكن أن يؤدِّي إلى تجاهل للإنسان بحالاته والأطوار والظروف التي يمر بها، دون أن تكلِّف تلك الفلسفات التي من المفترض أن تكون جميلة، نفسها للحفاظ على جمالية الإنسان بالدرجة الأولى، قبل الانشغال بجمالية الفنون والآداب والفلسفات.

كأنها بذلك التهميش والتأجيل لمركزيته، بمعنى عدم التحام كل تلك الفلسفات والفنون والآداب به، من حيث توجُّه خطابها إليه، ومن حيث احتلال تلك الفنون والآداب مساحة كبرى من رؤاها ونظرها واشتغالها، يجعل من الشيخوخة آخر ما يمكن أن يطمح إليه ذلك الإنسان، حين كتبت ذات نص: «كم هو مُفجع أن تصير الشيخوخة طُموحاً»، وبالتالي يتحدَّد طموح هذا الكوكب أو العالم في أن ينتهي به الأمر إلى الشيخوخة، هذا إذا لم يكن بلغها أساساً! وفي المحصِّلة، لا ينتج عن بعض «الفلسفات الجميلة» وما يرتبط بها، في ظل الصورة والواقع الذي يتأزَّم عاماً بعد عام، سوى الأخذ بالعالم وإنسان هذا العالم إلى مزيد من الشيخوخة التي لا مصْل يمنحها الحيوية.



أضف تعليق