حدادون بدون فحم وقصابون بدون لحم
في صبح مبكر قبل أيام، ومن أمام إحدى محطات النقل العام، على شارع الشيخ سلمان، وأنا في سيارتي لحظت رجلاً كهلاً ربما يربو على السبعين من العمر ينتظر حافلة السوق المركزي، فعرضت عليه أن أوصله إلى حيث يريد وقبل الدعوة.
الرجل كان قصاباً، ولديه فرشة في سوق اللحم في المنامة، بدأ يسرد قصته، التي اختصرها بكلمتين: «حداد بدون فحم» إجابة عن سؤالي له: كيف هي أحوالكم في سوق اللحم؟
يقول: «تغيرت الأحوال منذ أن تغيرت الأسعار، وأصبحنا غير قادرين على سداد مصروفاتنا، ولا رواتب عمالنا، فضلاً عن تدبير أمور معيشتنا، فبعد أن كانت الزبائن تصل قبلنا إلى السوق، أصبحنا الآن ننتظر الزبون لساعات».
بعد هذا الحديث الموجز مع هذا الرجل الكادح، الذي فتح لي باباً واسعاً على مأساة هذه الشريحة المكافحة من أجل لقمة العيش، صرت أسأل نفسي كيف يدبر هؤلاء الناس أمورهم؟! هل جاء الوقت الذي يجوع فيه هؤلاء الشرفاء من الناس، بعد أن شبعت البلاد والعباد من اللحم الذي باعوه لنا طوال عقود مضت؟!
لسنا الآن في وارد مناقشة رفع الدعم عن اللحوم، فهو حديث أخذ مساحة كبيرة من القيل والقال، والإجابة والسؤال، وأعلم ويعلم هذا «الحجي» أن أسعار اللحوم لن تعود إلى سابق عهدها، بل إن الأسعار مرشحة للزيادة والارتفاع، ولكن القصابين البحرينيين الذين قضوا حياتهم في سوق اللحم، هل سيخرجون منها وظهورهم محدودبة بدون أن تطمئن الدولة على أحوالهم، وتقف على احتياجاتهم؟!
القصابون البحرينيون ليسوا كثراً، وخصوصاً من يمتلكون محلات في السوق، هؤلاء يحتاجون إلى التفاتة من الجهات ذات العلاقة، بدون أن يراق ماء وجههم، فقد كان عرقهم طوال تلك العقود يراق من جباههم بحثاً عن اللقمة الحلال، والدولة مسئولة عن أحوالهم في هذه المرحلة الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها «حدادين بلا فحم» أو «قصابين بلا لحم»، وإن دعمهم لن يكون بدعة، فهناك آخرون من أصحاب الحرف والمهن يدعمون من الجهات ذات العلاقة كالصيادين مثلاً.
ما أشير إليه هنا ليس مساعدات خيرية، فهؤلاء الناس أكبر من أن نبحث لهم في آخر حياتهم عن مؤسسة خيرية تتعطف عليهم بقنينة زيت، أو كيس حنطة لجميع الاستعمالات، والحديث هنا عن تعويض مجزٍ، ومكافأة محترمة نظير عملهم في سوق تغيرت قواعدها اليوم، وأصبحوا هم وفق هذه القواعد الجديدة غير قادرين على ممارسة مهنتهم كما كانوا سابقاً.
الحديث سابقاً كان يتركز على عناء المستهلك بعد ارتفاع أسعار اللحوم، والحال أن المستهلك الآن يتسلم تعويضاً مالياً بغض الطرف عن حقيقة جدواه، ولكن اليوم نحتاج أن نفكر في تعويض مالي مجزٍ لهؤلاء الآباء الذين أكل أهل البحرين كلهم اللحم على أيديهم ومن محلاتهم لعقود طويلة من الزمن، وحل هذا الموضوع لن يحتاج إلى موازنة محطة نووية، ويمكننا تكريمهم، والوضع الاقتصادي الحالي لن يكون عائقاً أمام مشروع لن يُنزف موازنة الدولة.