عيد الأم بلا أم
قبل عام من الآن كنت وأشقائي وشقيقاتي شأننا شأن غيرنا من الأبناء والبنات نفكر في الطريقة التي نحتفل بها مع أمي بمناسبة عيد الأم الذي صار يأخذ مكانة كبيرة في الأسرة، وصارت الأمهات يأنسن بهذا اليوم فليس أسعد على الأم من رؤية أبنائها يحتفون بها، ويطلبون وُدّها بالمسامرة وتقديم الهدايا وهو غاية ما تتمناه الأمهات في زمن مكتظ بالمشاغل والمتاعب.
حينها اقترحت على أشقائي وشقيقاتي الاحتفال بهذه المناسبة بعيداً عن أبنائا وبناتنا، رغبةً في أن نعيش لحظات هذه المناسبة بمنأى عن صخب الروتين اليومي مع الأبناء، فنحن مشغولون بأبنائنا كل يوم، وكنت أريد أن يتأكد الشعور لدى والدتنا بأننا لازلنا تحت عباءتها صغاراً، وإن كان بعضنا أجداداً اليوم، وكنت أريد لقلبها أن يتحسس أن تحت قدميها تتصاغر الدنيا بما فيها، وينحدر الوجود بما فيه، وأن الدفء تحت عباءتها لا يضاهيه دفء، وأننا يمكن أن نترك كل شيء وراءنا حتى فلذات أكبادنا لنتسامر معها في ليلة أجزم أنها لن تفارق خلايا الذاكرة.
زعل الأحفاد والحفيدات من الفكرة، وتعقبوا مَن اقترحها باللوم والعتاب، بدافع الحب للجدة الطيبة، والتشرف بحضور الحفل، ولكن الإصرار على تنفيذ الفكرة كان أقوى من لومهم وعتابهم، فتم الحفل في منزل أحدنا، وشهدنا كيف أن فرحة الأم في تلك الليلة أقوى من وجع الورم الشرس الذي كانت تحمله في أحشائها، وكانت السعادة تنحدر من كلماتها، وأنفاسها، وكل حركاتها، بل حتى من نظراتها التي كانت تتوزع علينا برفق.
لا أعلم لماذا في ذلك العيد بالذات لم أكن أرغب في تقديم هدية ذات قيمة مادية، ولا أعلم لماذا كانت بداخلي كلمات تأسر حواسي وتفكيري ومشاعري، فقررت أن تكون هذه الكلمات هي الهدية فاخترت لأمي صورة كنت أرى فيها رحلتها في الحياة وكتبت على هامشها هذه الأبيات:
تجاعيدُ وجنتك أنهرُ
ومن بينِها الحبُ ينهمرُ
فيا غيمةِ الصيف عند الهجير
كقطر الندى فوقنا يقطرُ
رسمتك في مهجتي صورةً
تغيب بمحضرها الصورُ
فلو غبت عن خاطري لحظة
فــذنبي بك ليس يُغتفرُ
لأنك مستودعُ الذكرياتِ
على القلب غيرك لا يخطرُ
وقدمت الصورة مطرّزة بهذه الأبيات، وقرأتها لها أكثر من مرة وحاولت إيصال ما بها من مشاعر، وعندما قدمتها بين يديها وعانقتها كانت في صدري أمنية واحدة أردتها أن تتحقق وهي أن نعود أنا وأشقائي وشقيقاتي للاحتفال بها مجدداً العام القادم، وقبل أن تتحقق هذه الأمنية هذا العام بأسابيع ثلاثة، اختار الله لها ولنا أمراً آخر، وتوقف ذلك القلب عن النبض، ولم أعد أرى في مكانها الدافئ الذي نعتم فيه معها، سوى تلك الصورة الصامتة المطرزة بتلك الأبيات.
أعلم أن الحياة لن تقف بعد أن توقف قلبها عن النبض، ولكن وددت أن أبعث عبر هذا المقال رسالة لكل من له أمٌّ تتنفس، بأنّ اللحظات معها لا تقدر بثمن، وأنها لا تستحق عيداً واحداً وهو يوم 21 مارس فقط، بل تستحق 365 عيداً في السنة، قبل أن يصبح العيد معها من الذكريات.