تركيا وروسيا... شجاعة أم حماقة؟
يعتقد كثيرون أن الدافع الوحيد لجرأة تركيا فيما ذهبت إليه في تعاملها مع الوجود الروسي في سورية، هو الحلم التركي، بالتاج العثماني، الذي سقط من على رأسها قبل نحو قرن من الآن (1922)، وهو تبسيط لما يدور في البؤرة الأكثر صراعاً اليوم.
شهدنا كيف حبس العالم أنفاسه عندما اشتعلت النيران التركية في جسد المقاتلة الروسية، وليس من أحد لم يتوقع أن تشعل هذه النيران فتيلاً، يفتك بالمنطقة برمتها، أو يغير وجه الأزمة وخريطتها على الكرة الأرضية، ولكن يبدو أن الروس فضلوا أن يردوا بطريقة مختلفة وبما لا يضيع هدف مقاتلاتهم في سورية، فاختاروا حرق أعصاب الأتراك برد اقتصادي قد ينهك البلد الذي يخطط منذ زمن للّحاق بالقارة العجوز، وبالتأكيد فإن الأمر لم ينته بعد، ولا أحد يعلم ماذا يدور في رأس الدب الروسي، وخصوصاً أن فلاديمير بوتين يؤكد بين الحين والآخر «مخطئ من يعتقد أن ردنا على إسقاط مقاتلتنا يقف عند البندورا»، وهل أن هناك ثمة معركة قادمة ولكنها مؤجلة بقرار روسي؟!
بعد أن لفتت تركيا أنظار العالم بحادث جريء في الجو، هاهي الآن تلفت الأنظار من خلال تحرك على الأرض، وإن كان أقل جرأة من الأول، وهو تمركز قواتها بآليات عسكرية ثقيلة، في شمال العراق، وهي بذلك تدرك جيداً أن العراق مشغول بنفسه، ولا قدرة له على الصد، وإذا كانت ثمة آلة عسكرية لدى العراق قادرة على الحراك فهي مشغولة بمواجهة تنظيم داعش الذي كان على وشك الوصول إلى بغداد قبل عام من الآن.
يصعب على المراقب أن يقرأ الأحداث الأخيرة التي لعبتها تركيا، بمنأى عن بقية الأطراف التي تلعب دوراً مهماً في الصراع السوري، فهل الضغط على الزناد لإسقاط الطائرة الروسية كان بيد تركية فحسب؟ وهل يمكن لدولة مثل تركيا أن تقف لوحدها في وجه الروس، وهو الأمر الذي تحسب له الولايات المتحدة نفسها ألف حساب؟ وهل دخول تركيا في عمق الأراضي العراقية بجيش جرار يمكن أن يكون تكتيكاً تركياً خالصاً؟ للإجابة على كل تلك الأسئلة يجب أن نفهم طبيعة الصراع المركب في سورية، فإلى جانب الصراع الداخلي السوري، هناك صراع أكبر في الخارج السوري، فكل هذه الأسراب من الطائرات متعددة الجنسيات التي دخلت بهدف تخليص العالم من تنظيم داعش، ليس بالضرورة أن تكون أجندتها، واحدة، وليس بالضرورة أن تكون أهدافها متطابقة، وأكبر دليل على ذلك هو أن ظاهر المعركة أن الطائرات الأميركية، ونظيرتها الروسية تقاتل ضد هدف واحد، وهو تنظيم داعش، ولكن باطن الصراع يمكن أن تكشفه التصريحات المتبادلة بين الطرفين، والتي لا تنم عن توافق محض في الأهداف ولا الاستراتيجيات، وآخرها تصريحات وزارة الخارجية الروسية التي اتهم فيها الولايات المتحدة الأميركية بأنها تقسّم الإرهابيين إلى «صالحين وطالحين». إذاً نحن أمام معركة متشابكة المصالح، ومركبة بطريقة يصعب تفكيكها بمنأى عن صراع النفوذ الذي تحرك أطراف اللعبة فيه القوى العظمى المتصالحة جواً، والمتخاصمة أرضاً، وكأن الهيمنة على مناطق النفوذ لا يمكن الدخول إليها إلا عبر البوابة السورية، وواضح وضوح الشمس أن الأزمة السورية هي التي سترسم شكل المنطقة وستحدد مناطق النفوذ باللون الأحمر على خريطة السياسة في الشرق الأوسط، وواضح أن الجميع ينتظر الانتهاء من هذه المباراة المحتدمة على الساحة السورية والتي يلعب فيها كل الأطراف فحتى ساعة الحسم، ستنجلي الغبرة، وسيكون بالإمكان النظر إلى مشهد أكثر وضوحاً من هذا المشهد المعتم، وإن اتضحت الكثير من ملامحه.