-
القائمة الرئيسية
-
ملاحق البحرين تنتخب 2014
-
مشاركة المفكر الاسلامي الشيخ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة بتونس في ندوة حول المستجدات السياسية في البحرين - بريطانيا - 24 فبراير 2001م
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأهنأ إخواننا في دولة البحرين الشقيقة بما تم الإعلان عنه من خطوات بعضها قد أنجز وبعضها موعود بإنجازه. وأهنأ مئات المساجين الذين أفرج عنهم والذين رجعت البسمة إلى أطفالهم وزوجاتهم وأبنائهم وأمهاتهم. فمن كل قلبي، أنا المغترب، أشعر أن هذا الانفراج كأنه حصل في تونس وكأن آلافا من المساجين من أخواني في الشجون التونسية قد عادوا إلى ديارهم. قضية الإسلام قضية واحدة بل قضية الإنسان قضية واحدة، فكيف إذا كانوا أخوة كرام ودعاة صالحين إنشاء الله.
هناك سنن لا شك في التغيير ثابتة، ويمكن للأوضاع بعد ذلك أن تختلف من بلد إلى بلد آخر. وبالتالي فما حصل في تونس ليس من الضروري أن يتكرر في البحرين، شريطة أن تراعي السنن وتؤخذ الاحتياطات، ونعتبر.. أن في قصصهم لعبرة لأولي الألباب، ما كان حديثنا يفترى.
الأصل أننا نحب ان يستفيد بعضنا من تجارب بعض. ولا يعني هذا إسقاط هذه التجارب إسقاطا وانما يستفاد منها. في سنة 1987، حصلت مواجهة شديدة بين الحركة الإسلامية وبين نظام بورقيبة الهالك. في الحقيقة المواجهة بدأت بين الحركة الإسلامية وبين نظام بورقيبة منذ 1981، وتمت اعتقالات ومحاكمات شملت أكثر من خمسمائة من أفراد وقيادات الحركة الإسلامية - حركة الاتجاه الاسلامي. أطلق سراحهم نتيجة الضغوط الشعبية، ونتيجة الانفجارات الاجتماعية، فاضطرت الدولة إلى التنفيس، فأطلقت سراحنا سنة 1984. واصلنا عملنا وكبر عملنا أكثر، فقرر بورقيبة في سنة 1986 أن يكر مرة أخرى على الحركة، أن يهجم عليها بشكل أوسع وأعمق. فبدأت الاعتقالات في 9 مارس 1987، وكان رد فعل الحركة الإسلامية مسيرات واحتجاجات وإضرابات، استمرت لمدة حوالي ثمانية أشهر، تحولت فيها البلاد إلى محاكم ومجالد واعتقل حوالي عشرة آلاف من أخواننا وحوكم العديد منا بأحكام ثقيلة تتراوح بين المؤبد وحتى الإعدام. ورغم أن الحكم الذي صدر ضدي في البداية كان بالمؤبد ولكن بورقيبة غضب من هذا الحكم واعتبره خفيفا وقرر إعادة المحاكمة لإصدار أحكام إعدام وتنفيذها بسرعة ضد ثلاثين من قيادات الحركة الإسلامية. غير أن الله سبحانه وتعالى قضى فيه بأمره قبل أن ينجز ذلك ببضعة أيام. وجاء وزير الداخلية السابق الذي كان يقود المعركة في الحقيقة في زمن بورقيبة، هو نفسه الذي قام بعملية الانقلاب هذه، وتبين الآن، وظهرت وثائق، أن هذه العملية كانت جزء من مخطط أوسع ضد البديل المعارض للحكومة.
إذن تولى مدير الأمن، وزير الداخلية، الذي صعد حتى أصبح الوزير الأول (رئيس الوزراء) تولى هو الإطاحة بسيدة وجلس مكانه معلنا أنه "لا ظلم بعد اليوم"، وأنه سيعيد الاعتبار للديمقراطية وحقوق الإنسان وللعروبة والإسلام. ودخل جماعته معي في مفاوضته في السجن، انتهت إلى إطلاق سراحي بعد حوالي ستة أشهر من هذا الانقلاب. وإطلاق سراح كل المساجين الإسلاميين، حوالي عشرة آلاف سجين، بما فيه الذين كانوا متهمين بأحداث عنف، بما فيه الذين كانوا مهددين بالإعدام. كلهم أطلق سراحهم بل بعد سنة واحدة من الانقلاب في نوفمبر 1988، استقبلني الرئيس في قصره، وذلك بعد مفاوضات، وطمأنني بأن مسألة الاعتراف بحركتنا مسألة مقررة، وليس مطلوبا مني إلا أن "أهدأ الشباب". والمسالة هي مسالة وقت. وكانت الوعود: إعادة الناس إلى وظائفهم، استعادة كل حقوقهم المدينة، استعادة ممتلكاتهم، حقهم في أسفر. وأنا كنت مقتنعا بجدية الرئيس زين العابدين بن علي، وصدقه.
فعملت على إقناع إخواني به وكنت صادقا مع رئيس دولة يكلمك، لا بد أن تأخذ حديثه مأخذ جد. جاءت انتخابات سنة 1989، فازت فيها الحركة الإسلامية بأغلبية المقاعد. فلم يكن من الرئيس إلا ان زيف الانتخابات وأعطى كل المقاعد لحزبه ولم يكتف بذلك، بل قد قرر أن يفرض خطة استئصال على الحركة الإسلامية وفرض خطة تجفيف ينابيعها. وقرب إليه كل الجماعات العلمانية المتطرفة وبدأت عملية إقصاء الإسلامية.
عندما كنا نفاوض الوزراء المكلفين بالتفاوض معنا نيابة عن الدولة، كانوا يعدوننا بجملة من الإصلاحات، كالاعتراف بالحركة، عودة الناس إلى أعمالهم، تمكين الحركة من تكوين الجمعيات إلى آخره. كانوا يقولون لنا بأن: "أنتم الآن واضح لديكم بأنه الرئيس يسير على الخط السلم. أما مسألة التوقيت، أي تنفيذ هذه الوعود، فإن سرعة السير يحددها الرئيس لأن الدولة أعلى من أن يناقشها شخص، وليس عليكم إلا أن تثقوا بالرئيس. قدموا مطالبكم، وكونوا على يقين أن الرئيس سيحقق منها ما هو نافع في الوقت المناسب".
الآن، أنا يخطر ببالي أن هذه من المفترض أنها آداب الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى. إننا إذ ندعوا الله بيقين أنه سيستجيب لنا، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة، وأنه يستجيب في الوقت المناسب. وكان منا خطأ أن وافقنا على هذا التوجه، على هذا التفكير. ذلك لأن أمور السياسة ينبغي أن تحكم بالتفاوض والوصول إلى وفاقات. على امتداد الزمن كل شيء يمكن أن يتحقق. ولكن عالم السياسة فيه تحديدات زمنية، فيه كيفيات، ليس أن هذا سيقع، ولكن كيف سيقع؟ متى سيقع؟
ما كان ينبغي أن نقبل أن وتيرة السير، أي تحقيق هذه الوعود، أمر متروك للدولة. الدولة في الإسلام ليست كيانا فوقيا ميثولوجيا خرافيا، وإنما هي مؤسسة من المؤسسات ينوبها وينطق باسمها أناس، يصيبون ويخطئون. مع كيان معنوي له مسؤولة ويناقش وله خطط ونحن جزء من ذلك.
لقد فرحنا عندما ألغى الرئيس بن علي محكمة أمن الدولة وألغى قوانينها. وكان ذلك من أولى قراراته التي أحدثت فرحة كبيرة في البلاد لأن كل التيارات السياسية حكمت في محكمة أمن الدولة، فإلغاؤها في 1987، كان مكسبا مهما. ولكن بعد ذلك، بعد سنتين، لم يكن في نياتها تحقيق إصلاحيات جذرية. ولم تكن في خطتها إعادة العلاقة، إعادة بناء علاقة جديدة بينها وبين الشعب، تقوم على التراضي، وعلى أن الحاكم يستمد شرعيته من صناديق الاقتراع، وتكون هناك مؤسسات نيابية حقيقية ممثلة وليس هناك إقصاء، وأن حرية التعبير متوفرة وأن حرية تكوين الجمعيات مصانة. لأن الدولة -أي دولة في العالم- كل دولة تميل إلى التجاوز. والسلطة كالقوة والثروة، مفسدة ما لم تكن هنالك ضوابط. والدولة الحديثة تقوم على فكرة التوازن. التوازن بين الحاكم والمحكوم. فإذا كان الحاكم يملك الشرطة ويملك القضاء ويملك الإعلام ويملك المال والعلاقات الخارجية، فنحن ماذا نملك؟ نحن نملك المجتمع المدني. والمجتمع المدني لا يقوم إلا في إطار جملة من القوانين تحمي الحريات، ومن هنا فالحاكم قد يكون صادقا عندما يعد بالتغيير.
نعم الأصل أن يصدق الإنسان، إلا إذا جرب عليه الكذب. ولكن هذا الصدق لا تبنى عليه السياسة، السياسة لا تبنى على النوايا وإنما تبنى على الأفعال. لأنه الذي حصل في تونس أنه قبل العام 1978، كان هناك عشرة آلاف معتقل، أفرج عنهم جميعا، أما بعد سنتين، بعد 1989، فقد تضاعف العدد مرات وامتلأت السجون مرة أخرى.
الحاكم كان يقول أنه من عليهم بالخروج، مكرمة منه، عفا عنهم (وكأنهم كانوا مخطئون).. نعم انتشرت الأفراح في البلاد لمدة سنتين، بعد عشر سنوات حالكة. صحيح لم تعد محكمة الدولة، ولكن تحولت كل المحاكم في البلاد إلى محكمة أمن دولة. وكل مراكز الشرطة تحولت إلى مجالد. العبرة ليست بالأسماء وعندما تلغى محكمة أمن الدولة، هل يعني ذلك أن بقية القوانين سوف ينظر فيها؟ هل سيكون هناك قضاء مستقل؟ لا أعلم في العالم العربي وجود قضاء مستقل، ما عدا مصر (بالنسبة للمحاكم غير العسكرية). لا عبرة بالأسماء، أن تسمى هذه المحكمة، التي هي جزء من الجهاز التنفيذي وغير مستقلة عنها، أن تسمى محكمة أمن دولة أو محكمة شرعية أو محكمة مدينة. لسنا عبادا للأسماء. المهم أن تكون هناك ضمانات، وهذه الموعودات جيدة، لا بد من ضمانات أن الذين أخرجوا من السجن لا يعودون إلى السجن. لماذا سجنوا أول مرة أصلا؟ سجنوا لأنهم مارسوا حقوق المواطنة في التعبير والنقد، فإذا بقيت فوق رؤوسهم سيوف القوانين التعسفية التي تمنع حرية الصحافة وحرية تكوين الجمعيات وتمنع حرية المساجد وتمنع حرية الانتقال داخل البلاد وخارجها وتمنع نقد الحاكم، معنى ذلك أنهم خرجوا الآن ويعودا أضعافا مضاعفة بعد فترة من الزمن.
فلا بد أن الوعود هذه الأصل أن تصدق، ولكن "أعقلها وتوكل".. ينبغي أن لا تعود بلادنا إلى ما كانت عليه من ضيق واختناق وأحزان وكوارث، ينبغي أن يصفى الجهاز القانوني أولا، القوانين المصادرة للحريات، حتى يشعر الناس بأن الإصلاحات القائمة هي إصلاحات جدية. بل أكثر من ذلك، المتورطون في القمع، والذين ارتبطت أسماؤهم بالدم وبالنهب لثروات الناس، ينبغي أن يقصى هؤلاء، أن يعزل هؤلاء، لأن رؤيتهم والنظر إليهم لا توحي بالثقة، مجرد أن يرى المواطن المضطهد السجان والجلاد لا يزال في مكانه، فإنه لا يطمئن لا يعود إليه غدا. ولذلك جهاز الشرطة عندما أطلق سراحنا في 1987، ظل جهاز الأمن يعمل كما كان. يجمع الملفات، ويجمع المعلومات، ويسجل كل شيء. مما دل على أن إطلاق سراحنا لم يكن إلا عملية تنفيس. والحاكم الجديد كان يحتاج إلى وقت حتى يعيد تضبيط أموره. ولذلك فإن بعض رجالات الأمن كانوا يقولون لنا "نحن عائدون إليكم".
إذن هذه تجربة، لا شك ليست هي قانون عام لكل بلد، فكل بلد خصوصيته، ولكن العبرة هو أن في ميادين السياسة لا تكفي النوايا الحسنة، حتى وأن تكن صادقا، هذه النوايا يحاسب عليها الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، أما الدنيا فمجالها الأفعال. كان الجاحظ يقول "لا تشفيني إلا المعاينة".
مجال السياسة لا تكفي فيه التصريحات، رغم أهميتها، ولكن ينبغي أن نتبع هذه التصريحات بأطر قانونية، بجهاز قانوني يطمئن على أن هذه الإعلانات لديها جهاز قانوني يحميها على الأرض. هناك جهاز يضمن حرية الصحافة، وحرية المساجد، واستقلال القضاء والانتخابات النزيهة وتوازيع المناطق الانتخابية بصورة عادلة، حتى تكون هناك مؤسسات تأسيسية وتشريعية تمثل الشعب ولا تمثل على الشعب، ولا تمثل بالشعب.
صحيح، أننا في تونس ليس عندنا طوائف دينية، ولكن عندنا طوائف ثقافية، وسياسية، وهذه المجموعات كثير منها انحازت للدولة عندما ضربت الدولة الحركة الإسلامية. ثم انقلبت الدولة على هذه المجموعات لاحقا، لأن الاستبداد طاعون إذا ضرب في الجسم لا يقف عند عضو واحد منه وإنما يسري في البدن كله. الآن المجموعات التي اكتوت بالنار عادت لتحاور الحركة الإسلامية بتونس، وهناك الآن مجتمع مدني بصدد البناء والنهوض مكون من جمعيات حقوقية إنسانية، ومن نقابات وجمعيات الخ.
أعتقد أن الضامن الأساسي بعدم تجاوز الدولة هو وجود مجتمع مدني قوي، منظم في جمعيات وأحزاب ونقابات، الخ. ولا يكون هذا المجتمع المدني حقيقة قوة قادرة على ردع تجاوز السلطة وإيقافها عند حدها إلا إذا كان ذا طبيعة وطنية وليست طبيعة طائفية. فإذا كانت هناك جمعية طلابية شيعية في البحرين وأخرى سنية وكان هناك اتحاد نقابات سني وآخر شيعي وكان هنالك مؤسسات تختص فقط بطائفة دون غيرها، هذه ليست مؤسسات مجتمع مدني، وإنما هي مؤسسات طائفية وهذه لا تكون عادة قادرة على الحد من تجاوز وتفول السلطة التنفيذية، بل ربما ساعدت ذلك التجاوز.
فمن هنا، فالمطلوب من الحركات الإسلامية البحرينية تجاوز السجن الطائفي. الطائفية سجن. والطائفية تختلف عن المذهبية. فهذا جعفري وهذا مالكي وهذا حنفي.. هذا طبيعة الأمور، لأن الإسلام ليس به كنيسة وإن فيه حرية الاجتهاد، والمذاهب في الإطار الإسلامي زهور في حقل الإسلام تتحاور، بل تزين هذا الحقل. بينما الطائفية السياسية طاعون آخر، هي ادعاء كل فريق أنه هو الإسلام ويكفر الآخر، وأنه هو الناطق باسم السماء، وأن خارجه لا يوجد دين. هذه طائفية سياسية وهي كالطاعون. ولا يمكن أن يتأسس بها أي مجتمع مدني، ولا تقوم عليها مواطنة، ولذلك لا بد أن نكسر طاعون الاستبداد وطاعون الطائفية السياسية، حتى وإن ظلمنا بالطائفية، ما ينبغي أن يكون رد فعلنا طائفيا. ينبغي أن يكون رد فعلنا إسلاميا، أن يكون رد فعلنا وطنيا {لئن بسطت يدك إليّ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله ربّ العالمين}.
إذن فكون ظلمنا باسم الطائفية لا يعني أن يكون رد فعلنا طائفيا. أنا أعتقد أن تشكيل لجنة العريضة الشعبية وهذه فيها الشيعة وفيها السنة، مثل هذه التشكيلات حرية بالدعم وبالتنويه لأنها تمثل رمزا من رموز المجتمع المدني.