ما يحير هو التنافر ما بين التصريحات الرسمية والأقوال الأهلية التي تمت في أعقاب مؤتمر العنف والتمييز الذي عقد أخيراً في البحرين، والجدل المثار إثر انتعاش الحملة العالمية التي تقودها منظمة العفو الدولية في المنطقة ضد العنف والتمييز. ففي سياق محاور المؤتمر التي عرضت وتعريف المنظمة لظاهرة العنف ضد المرأة على انها ظاهرة عالمية ومسئولية من مسئوليات الدولة، وما صرحت به مستشارة المنظمة وحديث الكثير من الحالات المعنفة سواء من البحرينيات والسعوديات، أقول إن كل ذلك شكل حيرة وصدمة للجميع، كيف؟
الأمر بديهي، فالمؤتمر كشف المستور، وأبان ما كان لزمن ما شبه مجهول، والمجتمع لم يكن يعيره الاهتمام والدراسة اللتين يستحقهما. فأهمية المؤتمر لا تكمن في عناوين ومضامين محاوره فقط، إنما في المقاربات بين حال النساء المعنفات، وما وصلت إليه المرأة في مجتمعاتنا من تعليم وحقوق نسبية على مستوى الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن كشف المؤتمر لمساحات خفية لايزال يتستر عليها بسوء تقدير، وخصوصاً ان مجتمعاتنا كما أفاد الاختصاصي في علم النفس والاجتماع نادر سعيد: «تسوق التمييز والعنف ضد النساء ضمن الثقافة السائدة، والقيم البارزة عبر تقسيم الأدوار، وما ينتج عنها يشكل جزءًا من ثقافة عامة ومتكاملة تصون نفسها من خلال إبقاء النساء في مواقعهن الطبيعية في الواقع الاجتماعي على رغم ما يحققنه من تقدم على المستوى التعليمي ومشاركتهن في القوى العاملة والحياة العامة. وفي سياق التوليف والمزج وإدخال معايير العلاقات الأبوية والاقتصادية والمؤسساتية والثقافية وتسليط الدين الاجتماعي في ترشيد وتطبيع عملية التمييز والعنف».
ومظاهر الواقع شئنا أم أبينا لا تخفى على أحد، وتتمثل فيما تتعرض له النساء من تحديد لحرياتهن الشخصية ولحركتهن، إذ تعيش فئات كبيرة منهن حبيسات البيوت، ويتم التدخل في قراراتهن المصيرية كالزواج أو التعليم أو الانخراط في سوق العمل، فنلاحظ ان أبرز أسباب ارتفاع نسب البطالة في صفوف البحرينيات تأتي بسبب الزواج، إذ تشير الاحصاءات إلى ان نسبة مشاركة غير المتزوجات في القوى العاملة بحسب تعداد وصلت إلى , في المئة بينما انخفضت عند المتزوجات ووصلت إلى , في المئة فقط. أيضاً تتأثر قدراتهن على اتخاذ القرار بصحتهن الإنجابية ويبقين رهناً للإنجاب ما يحدّ من تأثيرهن على نواحي الحياة المختلفة، هذا بخلاف ما يمارس عليهن من عنف جسدي ونفسي، وآخر الحوادث الإجرامية ذبح الطفلة الكويتية ( عاماً) من قبل والدها لمجرد شكه في أخلاقياتها، علاوة على الضرب والحبس والاغتصاب والتحرش والإهانة والطلاق التعسفي، والخيانات وتعدد الزيجات الذي يعتبر عرفاً من أعراف المجتمع وتقاليده.
وبالمقابل تصاعد وتائر العنف يتأثر بأساليب التنشئة الاجتماعية التي ترسخ قناعة عند النساء بأن تحقيق الذات لن يكون إلا عبر بوابة إتقان الدور الإنجابي والاهتمام بالمنزل وكسب رضا الزوج الذي هو من رضا الله والابتعاد عن كل ما يخرج المرأة من أنوثتها. والسؤال: ألا تشكل هذه المظاهر مواطن ضعف تضعضع أوصال مجتمعاتنا؟ ثم إلى متى سيستمر الصمت والمداراة على هذا الواقع وتبريره أمام العالم؟
بيد ان أبرز الإشكالات دارت رحاها بشأن خلاصة دراسة منظمة العفو الدولية لواقع المرأة والعنف، والتي أكدت وقوع التمييز ضد النساء الخليجيات على رغم ما حققن من إنجازات تعليمة وأكاديمية لم تترجم إلى وظائف في مختلف الحقول. أيضاً غياب المعلومات والاحصاءات لتفشي هذه الظاهرة وشيوع ممارستها في دول الخليج، ولجوء بعض الفتيات للزواج للتخلص من عنف أفراد العائلة، على رغم مرور بعضهن بحالات عنف مماثلة في منازل الأزواج. ويلعب عدم الاستقلال الاقتصادي والتدابير الحكومية للحماية إلى الاضطرار للطلاق للتخلص من العنف، كما اشتكت بعضهن من قيود مفروضة على تنقلاتهن أو حبسهن ومنعهن من مغادرة المنزل. وأشارت الدراسة إلى تقاعس السلطات وتعامل الشرطة مع العنف الزوجي عبر الوساطة والمصالحة، بهدف «حماية العائلات من التفكك»، ما يعرضهن لمزيد من العنف عند العودة إلى بيت الزوجية، وخصوصاً ان غالبية الحالات تنتهي في النهاية إلى انهيار العائلة والطلاق.
وعاينت المنظمة حالات شديدة من العنف (كسور للأطراف، وتشويه)، ولم تحصل فيها بعض النساء على إنصافٍ كسكن بديل، أو تعويضات عن الأذى الذي أصابهن، وخلصت إلى أن التمييز ضد المرأة هو الذي يؤدي إلى دوامة العنف، ويرسخ كل منهما الآخر. وبيّنت الدراسة أن التمييز يحدث عند حصر حرية تنقل النساء وطلب الحصول على جواز سفر، وتدني مستوى مشاركتهن في الحياة العامة، وصنع القرار وانعدام دخولهن لسلك القضاء، إضافة لانعدام قوانين الأسرة وضعف المعمول به، وخصوصاً ما يتعلق بمسائل الزواج والطلاق. هذه خلاصة رأي الآخرين عما يمارس ضد النساء في مجتمعاتنا، فماذا عن رد الجهات الرسمية من دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى؟
لم نسمع الكثير وكأنهم غير معنيين بالأمر، أما في البحرين فقد جاء الرأي الرسمي واضحاً غير مؤارب، حين أكدت رئيسة المجلس الأعلى للمرأة، ومن بعدها الكثير من الصحافيات عبر أعمدتهن أو تصريحاتهن للإعلام، أن حالات العنف فردية ولا ترقى إلى ظاهرة اجتماعية، كما أكدت ان الإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية انخفضت للعام مقارنة بالصادرة في العامين و، إذ سجلت حالة في فيما كانت حالة في ، و حالة في بما فيهن من مواطنات ووافدات! حقيقة هذه التصريحات موضوعية في ركن منه، وناقصة وغير مكتملة لحقيقة الواقع من أركان أخرى! لماذا؟ لأسباب عدة منها:
- الجميع في البحرين وسواها يدرك إن غالبية حالات العنف ضد النساء لا تسجل لا في مراكز الشرطة ولا في المستشفيات أو العيادات الطبية العامة والخاصة، ومن لا يصدق فليبادر إلى التقصي والبحث، فالأسباب معروفة للجميع، ولهذا تغيب الإحصاءات الدقيقة والمعلومات الكافية، وهذا ما تأكد من استطلاع منظمة العفو الدولية. إذاً على المؤسسات الرسمية التوقف فوراً عن ردود الأفعال الدفاعية، الظاهرة موجودة في مجتمعاتنا، ومن يسعى إلى معالجتها واجتثاثها عليه الاعتراف أولاً بوجودها. فنحن لسنا بالمجتمعات الفاضلة ولا المثالية، وخصوصاً ان هناك إقراراً بأهمية تشخيص الأسباب الموضوعية في إطار منظومة الثوابت الدينية والدستورية والاجتماعية، فضلاً عن الاعتراف بأن العنف في البحرين هو عنف أسري أحد أسبابه الخلافات الزوجية، وما يتبعه من صعوبات تواجه وصول المرأة إلى حقوقها بسبب قصور الإجراءات، ما يدفع إلى ضرورة وضع منظومة متكاملة لتوفير المساعدة القانونية والقضائية للمرأة، وتعديل قانون الإجراءات الشرعية، وإنشاء محاكم مستعجلة وقانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية وزيادة عدد المحاكم الشرعية وتخصيص محاكم لتنفيذ الأحكام الأسرية والتوصية بتجريم إهمال الأولاد أو عدم الإنفاق عليهم وإعداد وثيقة زواج نموذجية، والتوصية بإصدار قانون أحكام الأسرة، ودليل استرشادي للمرأة يتضمن حقوقها والتزاماتها الشرعية. ماذا تعني هذه التصريحات الرسمية؟ ببساطة شديدة، تعني وجود تمييز ضد المرأة ونقصان لحقوقها، وخلل في التشريعات التي تمس جوهر حياتها.
- الموقف الدفاعي للجهات الرسمية ولبعض الكتاب عن خصوصية واقع مجتمعاتنا أصبح موقفاً تقليدياً، وغالباً ما يصل لدرجة التباين مع القناعات والطموحات، كل ذلك بحجة إثبات أن العنف ضد النساء الخليجيات عموماً والبحرينيات خصوصاً لا يشكل ظاهرة وان لا تمييز ضدهن وان نساءنا قد وصلن لكذا وكذا من مواقع صنع القرار... الخ. وهذا ما يجب التخلي عن الخطاب الرسمي الدفاعي بهذا الخصوص، وعدم الاقتصار على الاعتراف بوجود قصور على مستوى التشريعات والقوانين والأجهزة القضائية، بالقدر الذي يكون فيه العمل حثيثاً وجاداً لتغيير الواقع، ووقف ممارسة العنف وتبريره ضد النساء، عبر كسر حواجز الخوف والترهيب لديهن ودعوتهن لتسجيل حالات العنف، سواء في مراكز الشرطة أو المستشفيات، وتحسين إجراءات الأجهزة في التعامل مع المعنفات، إلى جانب مبادرة الدولة بإنشاء أعداد كافية من مراكز الاستماع والإرشاد الأسري وتقديم الاستشارات القانونية والنفسية والاجتماعية من خلال برامج منظمة، وخصوصاً ان لدينا جيشاً من خريجي وخريجات الخدمة الاجتماعية والنفسية، لماذا لا يعاد تأهيلهم والاستعانة بهم في إنجاز هذه المهمات؟
- الصورة النمطية التي تعوّد عليها المجتمع في التعامل مع ظاهرة العنف والتي يعتبرها البعض عادية وتأتي في سياق الثقافة التربوية والتأديبية والضبط الاجتماعي، هذه الصورة بحاجة إلى خلخلة وتغيير عبر تنفيذ برامج وحملات توعية إعلامية، فعدم معالجة هذه الظاهرة بموضوعية يعني انها ستشكل فضيحة عالمية لمجتمعاتنا تعكس مستويات التعاطي الدوني مع النساء.
وعليه، منظمة العفو الدولية محقة عندما أشارت إلى أن الأرقام غير واضحة في مسألة مشاركة المرأة في القوى العاملة، وتجد غرابة لا مثيل لها عندما تقارنها بالأرقام والأحاديث الدائرة عن أعداد خريجات التعليم العالي، المنطق يقول إنه كلما ارتفع مستوى التعليم زادت الفرص لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي، فلماذا لا تبادر الجهات الرسمية في مراجعة نتائج هذه الدراسة والكف في الدفاع عن مثالية مجتمعاتنا الفاضلة، فالتستر على الفضائح يزيد من فرص بروزها على السطح، تماماً مثلما حدث مع الإعلامية السعودية رانية الباز، والفتاة البحرينية الشابة التي فقدت حياتها قبل شهرين، والكويتية المقتولة منذ أيام ذات ( عاماً)، وغيرهن المحبوسات في منازل الأزواج إجبارياً.
إن جدية الجهات الرسمية في معالجة ظاهرة العنف والاعتراف بها، وبالتعاون مع المؤسسات الأهلية ذات العلاقة، سيشكل بلا ريب خطاً رادعاً لمن تسوّل له نفسه ممارسة العنف والتمييز ضد زوجته وأخته وبنته، و
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 882 - الخميس 03 فبراير 2005م الموافق 23 ذي الحجة 1425هـ