يقال إن الاسكندر سأل حكماء أهل بابل: أيهما أبلغ عندكم الشجاعة أم العدل؟ فأجابوه بالقول: إذا استعملنا العدل استغنينا عن الشجاعة.
قبل 24 عاما، وفي مثل هذه الأيام، تهاوت قلعة متقدمة للاستعمار مدججة بأقوى أنواع الأسلحة ومسلحة بأفتك وسائل القمع والقهر والاستبداد على يد رجل ثمانيني لم يكن يمتلك من حطام الدنيا وأسلحتها سوى كلمة الحق وصدور شعبه العارية إلا من قضيتها العادلة.
وقبل عام واحد فقط من 11 فبراير/شباط 1979 لم يكن أحد يتصور حتى أقرب الناس الى آية الله الموسوي الخميني ان بإمكان «المعارضة الإيرانية» ان تسقط تلك القلعة العتيدة التي كانت قد تحولت في عرف المعادلة الدولية والإقليمية آنذاك بمثابة الشرطي المكلف بمهمة حفظ الأمن والاستقرار الإقليميين بل «صاحب» تلك القلعة، أي محمد رضا شاه، كان قد صور للعالم ولنفسه أحيانا ولبعض معارضيه بأنه بات «جزيرة الاستقرار» التي ينبغي ليس فقط للقوى الإقليمية ان تحتدي بها بل انها «القوة العالمية الخامسة» التي كان يجب على نادي الدول الكبرى ان يضمها إليه!
كنت يومها في بيروت لست فقط اتابع عن كثب واهتمام ما يجري داخل تلك «القلعة» وما يتعلق بها من الخارج، بل وأستقبل على امتداد الأعوام التي سبقت ذلك السقوط المدوي أنواع «المعارضين» الإيرانيين، ولم اسمع يوما منهم - ومنهم من كان في أعلى سلم المعارضة وقيادتها - ان بالإمكان وفي المنظور القريب إسقاط تلك القلعة الحديد الصارمة القاضمة لكل ما ومن حولها.
يُجمع أهل الخبرة والاختصاص بالسياسة وعلم الحرب النفسية والإعلام والدعاية والترويج على أن ما فعله ذلك الرجل الثمانيني الهادئ والواعد في مسلكيته ونظراته خلال عام ونيف سواء انطلاقا من بيته المتواضع في النجف الأشرف في العراق أو من على سجادته العبادية التي لم يكن يمتلك غيرها في نوفل شاتو باريس فيما بعد، كان أشبه بالمعجزة.
فالشعوب هي الشعوب والسلطات هي السلطات وقوى الاستعمار وأعتدتها ورموزها هي هي عبر العصور والأزمان، وما يتغير في المعادلات هو: التقدير السليم لموقف اللحظة التاريخية والتوظيف الصحيح لتراكم الكفاح الشعبي.
استطاع ذلك الرجل الثمانيني الحكيم ان يوظف سلاح الكلمة الى اقصى حد ممكن ومن خلال تقدير سليم لموقف اللحظة التاريخية التي يعيشها، ليحول قضية شعبه العادلة وموقفه المبدئي من عتاة السلطة الظالمة والمستبدة الى قضية تدخل كل بيت إيراني أيا كان انتماؤه بل والى كل بيت في العالم أيا كان انتماؤه أيضا، كاسرا بذلك حلقات العزلة القاهرة والمستبدة التي كانت تحيط بالقضية من كل جانب.
باختصار شديد، استطاع مالك سجادة الصلاة لا غير، ان يوظف التراكم النضالي - من 1906 على الأقل حيث عام الثورة الدستورية، ان لم يكن منذ دخول الإسلام إلى إيران بحسب بعض المحللين - ليجعل من أعضاء فرقة «الخالدون» الخاصة بالحماية الخاصة بالشاه يقولون: «إن الذي حلل علينا زوجاتنا يحرم علينا اليوم استمرار التعاون معك». وان يجعل حماة القلعة من الخارج يبحثون عن كل الوسائل الممكنة للاتصال بأطراف المقبل الجديد بعد ان تحول كالنهر الجارف.
ثمة من يتحدث عن عشرات العوامل الأخرى المساعدة التي دخلت على الخط وساعدت في نجاح مهمة ذلك الرجل. ولا أحد ينكر ذلك من المحللين. لكن المهم في القضية هو اكتشاف العامل الأساسي والمحوري الذي ساهم بقوة في تشخيص وتحديد مهمة اللحظة التاريخية أولا ومن ثم استطاع وبنجاح أن يوظف كل العوامل في إنجاح تلك المهمة والوصول بها الى بر الأمان.
لم يغب عن بال الخميني يوما بأن معضلة بلاده إيران إنما سببها غربة إيران عن الإسلام وابتلاؤها بطاغية متجبر لا يسمع لنبض الشارع واحتياجاته الأساسية.
ولم يغب عن بال الخميني بأن علة العلل في ذلك الطاغية أنه يتبع الأجنبي الطامع في ثروات بلاده ولا يعرف بأن هذا الأجنبي المستعمر لا يريد الخير حتى لذلك الشاه مهما قدم من خدمات.
ولم يغب عن بال الخميني يوما بأن «جزيرة الاستقرار» هذه لا يمكن لها الدوام مهما طال عمرها وهي معادية لجيرانها ولا تهتم بهمومهم واهتماماتهم وفي مقدمتها المرض السرطاني المحيط وهو وجود الكيان الصهيوني الغاصب.
لذلك ركز الخميني مراكما نضالات شعبه منذ انتفاضة خرداد (يونيو/حزيران) العام 1963 التي سبق له ان قادها على هذا المثلث في الرؤيا واضعا نصب عينيه مهمة واحدة «ان يذهب الشاه بشرط ان يأتي الشعب»، وليس أي شيء آخر مطلقا. ولم يقبل المساومة على هذا الهدف في كل الـظروف والأحوال.
ومثل هذا التشخيص كان يعني ألا يفتح معركة جانبية مع أي أحد كان لا في الداخل ولا في الخارج إلا في حدود مثلث الرؤيا الآنف الذكر. واختياره للوسائل جاء أيضا على قاعدة الرؤية الآنفة الذكر.
لم يعد مرجعا دينيا ولا طائفة أو طيفا أو حزبا أو طبقة أو ضابطا أو شرطيا أو نائبا أو وزيرا ناهيك عن الاختلاف مع أحد من مناصريه أو حوارييه أو اخوانه في الفكر والعقيدة والنضال، وظل يطرح أفكاره بطريقة جعلت سواد الناس يقرأون الإسلام ويرون فيه كل تفاصيل الحياة، وعندما حانت ساعة الحسم التي اختارها، أو اختارها له القدر المحكوم بالسنن الكونية وقد عمل بها، وطلب من الناس النزول الى الشارع ليسدوا كل نوافذ القلعة على الطاغية اعتبر الناس بأنهم إنما ينزلون إلى الشارع دفاعا عن حياتهم وليس عن شيء مجرد ونظري اسمه الإسلام.
وكما عمل في الداخل عمل أو تعامل مع الخارج فلم يعد أية حكومة محلية أو قوة عالمية ثانوية ولم يُشتت قواه في الدخول في محاور إقليمية ولم يقبل تدخلات خارجية في تحديد مصير شعبه نصيحة أو مساعدة أو دعما أو اسنادا او استدعاء، كما انه لم يحمِّل العالم مسئولية استمرار أوضاع بلاده أسيرة الطغيان والاستبداد أو يصب جام غضبه على المنظمات والاحزاب والقوى التحررية والثورية في العالم لأنها لم تتفهم عدالة قضيته وقضية شعبه أو يعزو الانتكاسات التي ظلت تتعرض لها قضيته طوال فترة النضال إلى عدم وقوف القوى الاقليمية والدولية معه ولم يخطئ اتجاه البوصلة الخارجية يوما بأنها كانت تشير دوما إلى القدس المحتلة والنظام العنصري المقيت الجاثم على صدر شعب الجبارين حتى وإن كان من بينهم من كان يفاوض الشاه في طهران طالبا المساعدة والدعم مقابل علاقات أو من كان يتهمه ويتهم حركته بالرجعية السوداء أو اليمين العفن! بل وعملاء المخابرات المركزية الاميركية او الذين لفظهم الشعب الفلسطيني فيما بعد أو هداهم الله إلى اكتشاف حقيقة الصديق من العدو.
وحده مبدأ الاعتماد على الشعب وسواد العامة من الناس بشكل اخص بعد الله والثقة المطلقة به في كل الاحوال وصدق النية في التوكل عليه هو الذي جعل ذلك الثمانيني الفقير إلى الله ينتصر على «صاحب» القلعة المدججة بكل الاسلحة إلا سلاح الايمان ويصرعه في ميدان السياسة والحياة. ووحدها آلية تشخيص وتحديد المهمة المركزية الواحدة في اللحظة التاريخية الواحدة كفيلة بتحقيق الانجازات الكبرى للقادة والشعوب.
القادة والشعوب التي تقرأ جيدا طبيعة السنن الكونية التي وضعها الله في حركة الظواهر وتحولاتها ولا تبديل لها. فالاعمال في هذه الدنيا انما تجد محصولها وثمارها بالنتائج التي تفرزها وليس بالنوايا التي يحملها اصحابها. فليس مهما ولن يغفر لك أحد في الدنيا وربما الله ايضا في الآخرة - والله اعلم - ان تأتي بحكم الاجنبي وسيطرته وهيمنته على بلادك ومقدرات شعبك بحجة ان نواياك كانت سليمة أو طاهرة حاكما كنت أو معارضة لا فرق، وليست شجاعة ان نخوض المعارك الخاسرة بحماس ولا هي كذلك أن نخوضها بحماس مضاد قبل ان يكون تقديرنا للموقف سليما ويتفق مع اتجاه البوصلة السياسية للأمة وتقديرات سواد العامة من الناس. وقد قالت العرب يوما:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 157 - الأحد 09 فبراير 2003م الموافق 07 ذي الحجة 1423هـ